حتى بداية هذا العام 2009، كان الرقم القياسي الأعلى الذي سجله اي فيلم عرض في مدن كوريا الجنوبية، منذ ما لا يقل عن عشر سنوات، هو ذاك الذي سجله عدد مشاهدي فيلم «فهرنهايت 10/9» للسينمائي الأميركي مايكل مور، في مجال الفيلم الوثائقي، الذي لم يكن - على اية حال - اعتاد اجتذاب اعداد كبيرة من بين ال150 مليون متفرج الذين يدخلون الى الصالات السينمائية سنوياً في ذلك البلد الآسيوي البعيد. ونعرف طبعاً ان نحو ال450 ألف مشاهد الذين شاهدوا فيلم مور، انما فعلوا ذلك لأسباب سياسية في بلد اعتاد طلابه ان يعلنوا سخطهم على الحكومات الأميركية ليلاً ونهاراً. ومن هنا لم يكن عدد مشاهدي الفيلم ينم حقاً، عن تطلعات فنية أو عن ازدهار لنوع شديد الخصوصية من السينما. ولكن فجأة عند بداية العام كشفت الإحصاءات ان فيلماً وثائقياً كورياً، تمكن من ان يحطم ذلك الرقم القياسي بنحو ثلاثة ملايين متفرج شاهدوه. الفيلم هو «الرفيق القديم» وموضوعه: علاقة صداقة بين بقرة وصاحبها العجوز. من ناحية مبدئية يذكّر هذا الفيلم بشريط ايراني يعود الى ما قبل الثورة الإسلامية، وشكل بداية نهضة السينما في إيران وهو، تحديداً، فيلم «البقرة». لكن الفوارق بين الفيلمين كبيرة، لعل أبرزها ان «البقرة» الإيراني فيلم روائي، وأنه حقق في الخارج يومها، أضعاف أضعاف ما حقق في بلده، على عكس الفيلم الكوري الذي تدافع الكوريون لمشاهدته، حتى قبل ان تصل أصداؤه الى الخارج. مهما يكن من أمر، فإن للسينما في كوريا الجنوبية خصوصيات لعل أهمها انها تحقق ومنذ عقود طويلة نجاحاتها الداخلية من دون ان تكون هذه النجاحات انعكاساً لأية نجاحات خارجية لها. وهذا ما يميزها عن سينمات آسيوية أخرى، مثل تلك الصينية والتايوانية وحتى اليابانية. ومن هنا إذا كان عمر السينما الكورية الجنوبية، يقارب اليوم ثلاثة أرباع القرن، فإن العالم الخارجي لم يعرفها في شكل متكامل إلا منذ سنوات قليلة... تقريباً منذ الوقت الذي أطلت فيه كوريا الجنوبية على العالم، من خلال صناعة سيارات راحت بسرعة تضاهي صناعة السيارات اليابانية، ومنذ راحت شاشات التلفزة في العالم تنقل في شكل متواصل مشاهد الطلاب المتظاهرين بعنف ضد اميركا، ضد الإمبريالية، ضد العولمة، ضد الرأسمالية. باختصار ضد كل ما ساهم في ما يسمى اليوم ب «المعجزة الكورية»، وصولاً الى ان يصبح ديبلوماسي كوري (بان كي مون) اميناً عاماً للأمم المتحدة! كل هذا، إضافة الى عناصر أخرى، بات له اليوم تاريخ. ولئن كان من الصعب البحث عن هذا التاريخ في الكتب، أو في برامج الحكي التلفزيوني التي قلما تطلعت في اي بلد الى خارج حدود هذا البلد، لا شك في ان ثمة مكاناً يمكن التطلع إليه، لمعرفة الخلفيات. وهذا المكان هو - كالعادة - السينما. فبلد ينتج في العام أكثر من مئة فيلم، ولا يزال عدد الصالات فيه مرتفعاً جداً (2081 صالة، ل150 مليون متفرج سنوياً)، وبلد احتل فيه فيلمان محليان، في موسم 2008 - 2009، المكانتين الأولى والثانية بين أكثر الأفلام مشاهدة، لا شك في انه يمكنه الزعم ان السينما لا تعكس فقط، فيه، تطلعات المشاهدين، بل تاريخهم ايضاً وذهنياتهم. هذه السينما الكورية التي لا تفتأ تحقق منذ سنوات نجاحات كبيرة في مهرجانات العالم، على رغم صعوبة نطق اسماء مخرجيها المتشابهة الى حد غريب، ظلت حتى الآن تقدم نتفاً متفرقة، لا سيما في مدن المهرجانات السينمائية العربية. أما اليوم فها هو التكريم الخاص للسينما الكورية ضمن إطار مهرجان مراكش، يكشف امام أعين متفرجين يستبد بهم الفضول، اكثر من خمسين عاماً من تاريخ هذه السينما، وبالتالي، أكثر من خمسين عاماً من تاريخ الذهنيات في بلد يبدو، حتى، اشد غموضاً، من جاره الشمالي، كوريا الأخرى، الشمالية. ولكن هنا، في مراكش، يوماً بعد يوم، وفيلماً بعد فيلم، واضح ان الغموض يتضاءل إثر مشاهدة افلام حققت بين 1955 و2008، وتناولت، في شكل أخاذ، أنواعاً كثيرة من السينمات، من افلام الغرام الى افلام المغامرة، ومن الأفلام الفنية الصعبة، الى أفلام التراث الأسطوري والشعبي، وصولاً الى الأفلام السياسية وأفلام الواقع الاجتماعي، مع التوقف، طبعاً، عند ثلاثة أفلام حظيت خلال العامين الأخيرين بسمعة عالمية لا شك فيها، وهي: «المطارد» لناهونغ - جين، الفيلم البوليسي الذي يحبس الأنفاس والذي لا شك سنشاهد عما قريب اعادة إنتاج اميركية له، وفيلم «عطش» الخيالي المرعب الذي يدور حول تجربة طبية تحول قسيساً الى غول. اما الثالث والذي يبقى أطرف الأفلام الكورية وأكثرها جنوناً، فهو ذاك الذي عرض العام الفائت في مهرجان «كان» وعنوانه «الطيب والشرير والأخوت» لكيم جي - وون، وهو فيلم يحاكي من موقع شديد السخرية، افلام الغرب الأميركي كما حققها الإيطاليون (وسترن سباغتيتي) في قالب من المطاردات المثلثة، على ايقاع موسيقي مدهش، لا يترك مجالاً للمشاهد كي يتنفس إلا في الدقائق الأخيرة. هذه الأفلام الثلاثة هي، بالتأكيد، درر هذا الاحتفال السينمائي المراكشي بالإنتاج الكوري الجنوبي، الاحتفال الذي يكرس للمرة الأولى لسينما هذا البلد. لكنه - اي الاحتفال - لا يكتفي طبعاً بهذه الأفلام التي باتت معروفة، بل انه - كما أشرنا - يغوص أبعد في الزمن، ليكشف تحفاً سينمائية تقول روح شعب بأسره، وتاريخ ذهنيات هذا الشعب الذي يعيش دائماً عند حافة الخطر، وعند حافة الاضطرار الى التجدد الدائم، مراعاة لتطور اقتصادي وحضاري هو في نهاية الأمر مصيره ولعبته الكبرى. وما السينما سوى شاهد على هذا. شاهد متورط. شاهد يقدم هنا، في مراكش، عبر افلام تدهش وتفاجئ، ليس فقط في وتيرة إنتاجها وإيقاعه، بل ايضاً، وخصوصاً، باستمراريته المدهشة، الى درجة ان المشاهد بالكاد يتنبه في نهاية الأمر، وبعد ان يكون قد شاهد، حتى كتابة هذه السطور، العدد الأكبر من هذه الأفلام، ان في هذا البلد أزمة إنتاج أو حتى أزمة تعبير من النوع الذي اعتاد سينمائيو البلدان الأخرى الحديث عنه امام هجمة التلفزيون، أمام هجمة أدوات الاتصال الحديثة، امام هجمة العولمة، أو أمام هجمة ذلك الواجب اليومي للطلاب والذي يتمثل في مجابهة رجال الشرطة في بلدهم متظاهرين كل صباح، ومهما كانت هوية النظام الذي يدافع عنه رجال الشرطة هؤلاء.