يؤمن محمد عيد إبراهيم بأن الترجمة موهبة، وتحتاج إلى جهد حمَّالين، وأن مشروعه فيها ضمن جماليات التمرّد والهتك والعنف، وعن علاقتنا بالسابقين يقول: «علينا السير فوق أكتافهم لا خلفهم ولا أمامهم»، وأنه يركز على الأعمال التي تبين أن النفس البشرية تجمّع المتناقِضات، وتوحّد المختلفات. هكذا يرى الشاعر والمترجم المولود في القاهرة عام 1955 والذي ينتمي إلى جيل السبعينات، وقد صدر له 13 ديواناً منها «الملاك الأحمر»، و «عيد النسَّاج»، وترجم أربعة وخمسين عملاً، منها «كأس الألم»، و «في عشق جيفارا»، و «بنت مولانا»، و «مقدمة لقصيدة النثر». كيف تختار ترجماتك؟ - طيلة عمري أملك مشروعاً جمالياً لا أحيد عنه، ليس مشروعاً دوغمائياً بل متحركاً، لكنه يصبّ أخيراً ضمن جماليات الحداثة وما بعدها، ضمن جماليات التمرّد والهتك والعنف ومضادات الرومانسية، بل ضمن جماليات إبادة القديم، لا عبادته، والسير على أكتاف من سبق، لا السير خلفهم أو أمامهم، قد تكون الإبادة عملاً جليلاً، بعيداً من المفهوم الأخلاقيّ أو السياسيّ، أقصد الإبادة الجمالية لطرائق سادت فتسيّدت فاستُهلكَت ثم هلكت. على المرء أن يحكّ جلده كلّ حين، ليوافق تغيرات الزمان، لا أن يمشي مع الرِكاب بل ضده، فكلّ من يتوافق فهو إلى موات قريب، والدنيا واسعة، وهناك ما لا نهاية له من أشكال الإبداع وطرائق الفنّ. ترجمت مثلاً في عام واحد، رباعيات مولانا جلال الدين الروميّ، لحاجة في نفس يعقوب، لكنني ترجمت معها أو بعدها ديوان (قصائد حبّ) للأميركية آن سكستون، وفيه من الهتك ما فيه، كذلك ترجمت رحلة حجّ بوذية، وبعدها ترجمت (جوستين) للماركيز دو ساد، وفيها من الهتك أيضاً ما فيها، هي النفس البشرية تجمّع المتناقِضات، وتوحّد المختلفات، كما قال سيوران (الرغبة توحّد بين الراهب والجزّار)، وأمامي مشروع كبير لا يزال، لا أعرف هل يُسمح لي بالعُمر كي أتمّه أم لا. أنشأت سلسلة «آفاق الترجمة» وأصدرت خلال رئاستك لتحريرها قرابة الستين عملاً، فما كانت أهدافك؟ وماذا تحقق منها؟ وما تقويمك لمسيرتها؟ - حين أنشأتُ سلسلة «آفاق الترجمة» قبل منتصف التسعينات، كانت حال الترجمة بائسة جداً في مصر، تكاد تكون مهملة، وبإصدار السلسلة بسعر شعبيّ، وجماليات معينة، وغلاف باهر للفنان عمر جهان، أستطيع القول إني نفخت ناراً في الرماد، كما ساعدت الدكتور جابر عصفور في تنشيط «المشروع القومي للترجمة» في بداياته، وهو دور يجب ألا ينساه أحد، لا فضلاً مني لا سمح الله، بل لأني أديت فيه قدر استطاعتي، وتولَّى السلسلة بعدها غيري اثنان، واختلف المسار، لكن لكلّ الحقّ في فكره وجهده، ومع أني لا يُسمح لي الآن بالنشر سواء في «آفاق الترجمة»، التي بات اسمها «آفاق عالمية»، أو «المركز القوميّ للترجمة»، وهو أمر غريب، لكنه لا يثير أسىً عندي، فالعالم يسع الجميع، وما لا يُنشر هنا يُنشر هناك. أيهما أفاد الآخر؛ الشاعر أم المترجم؟ - لقد أفدتُ من الترجمة طبعاً في شعري، كما استفاد شعري من الترجمة، كلاهما في حركة جدلية، فقد كانت لي صيغ أسلوبية معينة في شعري لم تكن تصلح للترجمة، عليّ أن أتوافق مع النصّ المترجَم، مقترباً من صيغ المؤلف قدر الممكن، لكن بالحفاظ على لغة عربية جميلة، حتى ليصير النصّ النهائيّ نوعاً من المنتج المشترك، فتقرأه وكأنه بالعربية أصلاً، وهو سعي أتمنّى أن أكون قد حققته. والترجمة موهبة وصنعة معاً، فمن يحتمل هذا الجهد الذي يقترب من جهود الحَمّالين من دون أثر ماديّ كبير، إلا من كانت تملكه موهبة، كما أنها صنعة أيضاً، فعليك أن تكون شبه موسوعيّ لتفهم النصّ من جوانبه كافة، وتؤديه على وجه يرضي الذائقة، لكني أوظّف هذه (الصنعة) لو شئت أن تقول، في سبيل تحقيق أهدافي الجمالية بمشروعي الشخصيّ عبر الزمن. بم تفسر كثرة النشر في الآونة الأخيرة، فبين ديوان «عيد النسَّاج»، و «مقدمة لقصيدة النثر»، مدة لا تتجاوز ستة أشهر وبينهما ترجمة رواية «بنت مولانا»، هذا غير ملفات الترجمة في الدوريات الثقافية؟ - قد يظنُّ الناس أني غزير في منتجي الثقافيّ، عبر الترجمة خصوصاً، لكن الحقيقة أني أترجم عبر سنين، وكلّ كتاب يصدر هناك عمر قبله وقفت عليه وأخلصت فيه للنصّ المترجَم، صحيح أن ديوان «عيد النسّاج» صدر في 2015 لكني كتبته قبلها عبر عامين، وحضّرت له عامين، أما كتاب «مقدمة لقصيدة النثر» فقد بدأت ترجمته بعد صدوره مباشرة في أميركا، إذ حصلتُ على نسخة سريعاً، واستمر الأمر سنوات حتى صدر، كذلك رواية «بنت مولانا» تُرجمت ونُشرت من قبل، وهذه الطبعة الثالثة لها، وعموماً، أنا إنسان مجدّ ومجتهد ومخلص ودؤوب كالنملة التي تحفظ طعامها فترة حتى لا تموت جوعاً فترة أخرى، حتى فترة إقامتي في الإمارات لم تضع قط، فقد أصدرت فيها دواوين وترجمات كثيرة، ولو كنتُ في الصين لكتبتُ ما كتبتُ، فالمسألة هي الدأب لتجد نفسك فجأة وقد بلغت الستين أن لديك ما يزيد على عمرك كُتبا، وهي حصيلة جهد عال يُفترض أن أُثاب عليه، لا أن أُعاني حتى اليوم عداوات سخيفة لا تُغني من جوع، يا أخي، اشغل عمرك بما يفيد، وعبر السنين سترى الحصيلة. بين «طور الوحشة» 1980 و «عيد النسَّاج» 2015 جرت مياه كثيرة في النهر، فكيف ترى هذا الجريان؟ - جرت طبعاً مياه كثيرة، وفي أنهار عدة، لا في نهر واحد، فقد كنتُ ساعتها عضواً في جماعة «أصوات» الشعرية، التي نشأت لمحاربة السائد في أيّ مؤسسة ثقافية حينذاك، في زمن السادات، الذي أغلق منافذ الإبداع إلا قليلاً، فتلمّسنا الحاجة إلى طرح أفكارنا وإبداعاتنا في شكل مناهض للسلطة، ومفارق للواقع، وقمنا بإصدار ديوان لكلّ منا، بعده أصدرنا مجلة ثقافية؛ «الكتابة السوداء» التي لم يصدر منها سوى عدد واحد كبيضة الديك، ومن ثمّ تفرّقت بنا السبل وراح كلّ في جهة، يسعى إلى تكريس نفسه، وإضاءة مشروعه الجماليّ الخاصّ. بعد انقضاء نحو أربعين عاماً؛ كيف تنظر إلى تجربة «أصوات» التي شاركت في تأسيسها عام 1978؟ - كانت مفيدة للغاية، إذ كنا نجتمع أنا وعبد المنعم رمضان وعبد المقصود عبد الكريم ومحمد سليمان أحياناً في بيت الشاعر أحمد طه؛ كي نقرأ وننقد ونقوّم بعضنا بعضاً في جلسات ثقافية مستمرة، وتثور نقاشات رائعة حول كلّ شيء، وأتمنّى أن تقوم الأجيال الشابة بتجارب مماثلة، لا لكي تنشر مثلنا على تلك الوتيرة البسيطة المتقشّفة، بل لكي تختبر وتقوّم تجاربها دائماً، وفي هذا الخير العميم. ومهما ثار بيننا من شِقاق وتباينات وآراء حول وجهات النظر الجمالية، والاجتماعية والسياسية طبعاً، إلا أننا كنّا أمام هدف متقارب، السعي إلى تغيير الذائقة الجمالية المستقرّة، وشنّ الحرب على كلّ ما هو هالك ومستهجَن ومتقادم من أساليب شعرية وبيانية رائجة. لكن كدورة أيّ شيء في الطبيعة، كان لا بدّ أن يقوم كلّ منا بشقّ مسار خاصّ به، لم يحدث ذلك فجأة، لكن على فترات متباعدة، إذ انفصلتُ بعد قرابة عشر سنوات، عام 1990، لأبدأ إصدار دواويني، من ثمّ ترجماتي، على وتيرة متوالية، وبدأ الناس التعامل معي ككلّ وحدي. يرى البعض أنه على غزارة إنتاجك الشعري فإنه لم يحظ بالقدر المناسب من الاهتمام الجماهيري أو الدراسة النقدية، هل توافق على هذا الرأي؟ - أولاً، إنتاجي الشعريّ ليس غزيراً، فقد أصدرت عبر ما يزيد على أربعين عاماً اثني عشر ديواناً فقط، بفترات تقترب من أربع أو خمس سنوات بين ديوان وآخر، وليس مهماً أن تصدر دواوين كثيرة أو قليلة، لكن المهم أن يكون هناك إبداع فيها، بل ويختلف من ديوان إلى آخر، في تصاعد، لا أستطيع الحكم عليه، وللنقَّاد الرأي في ذلك، إن كان ثمة نقّاد في مصر الآن، فهناك ثلّة ممن يحاولون النقد، ويتكالب عليهم المبدعون، فتكوّنت عصابات نقدية تعمل على تقديم النطيحة والذبيحة وما أكل السبع على أنهم (أبدع ما كان)، والحقيقة في مكان آخر، ما يؤسّي هو أن ما يحدث في مصر الآن في المجال الثقافيَّ لا يختلف عما يحدث في أيّ مجال سواه، التردّي هو السائد، ولا يتوقّف، بل يزداد تردياً مع الأيام. كتب عني نقّاد كبار من قبل، منهم صبري حافظ وغالي شكري وشاكر عبد الحميد، إلا أن حكاية النقد ومن كُتب عنه أكثر أو أقلّ ليست بذات قيمة كبيرة، فالمُهم أن يحسَّ الشاعر نفسه بأنه يتطوّر يوماً بعد يوم، وديواناً بعد آخر، وهو المؤشِّر الصادق لنفسه، إن لم يكن يرى في المرآة شخصاً آخر بحُلّة أخرى وجِلد مختلف، هنا مربطُ الفرس، على كلّ منا إن أراد أن يكبر في إبداعه أن يتواضع، خصوصاً أمام مرآته، ويرى نفسه بالحجم الطبيعيّ، فألف السعي إلى الكمال تبدأ ولا تكتمل إلا بالسطر الأخير في حياة الشاعر، ومن ير نفسه أكبر من الشعر فليذهب هو وشعره إلى الجحيم، لا يكبر أحد على الشعر، وعلى التجريب، وعلى البحث الدؤوب عن صوته الخاصّ فلا يكون صدىً لأحد، ولا يستكتب (المنسوخ) و(الوصفة) الرائجة، ففي هذا مقتله، وإن طال عمره كالبقرة. لك تجربة مع عدد كبير من دور النشر العربية، فكيف ترى تعاملها مع الكاتب والكِتاب؟ - كثيرٌ من دور النشر العربية يأكلُ حقوق المبدعين، أو يمنحه ريشة من الغنيمة، وهو مسألة في غاية الخطورة، بدأت حين دخل الهواة والمستثمرون والتجّار على النشر الثقافيّ، مستغلّين حاجة المبدعين المتزايدة لنشر منتجاتهم، من دون أن تكون هناك مصفاة لرشح المفيد من الغثّ، حيث ساد الأخير بل لم يترك مجالاً لتنفّس الأول، لكن يعزّينا أن الزبَد يذهب جُفاءً كالباطل، كما تُشير الآية الكريمة. ما أثر قنوات التواصل الاجتماعي في المبدعين والإبداع؟ - قدّم فايسبوك ثورة حقيقية من جوانب كثيرة، إذ ساعد على التواصل الاجتماعيّ بين الأصدقاء، لكنه ساعد في المقام الأول، وهو ما لم تحتط له أجهزة الاستخبارات في العالم إلا أخيراً، على القيام بثورات سياسية على النظم العفنة المستبدّة، حيث راجت أفكار (المقاومة السلمية) للفيلسوف الأميركيّ جين شارب، بخاصة في كتابه «من الديكتاتورية إلى الديموقراطية». ولا يعنيني هنا نجاح هذه الثورات أم إخفاقها، فقد تآمر عليها الجميع، ولستُ هنا في مجال تقييم هذا. كما ساعد على نشر المنتجات الإبداعية من دون وسيط الناشر بل ومجاناً، وقد يظنّ بعضنا أنه أضرّ كما أفاد، حيث انتفت المسؤولية النقدية عمّا يُنشر، لكنه أفاد من جهة أخرى في نشر كثير من النصوص الكبيرة، من دون عائق رقابيّ، أو تابو سياسيّ إلخ. وكأيّ وسيلة اتصال، يمكنك أن تأخذ أيّ جانب تريد، لك مطلق الحرية، ومسؤوليتك أن تضمّ العدد الأكبر من الجادّين في صفحتك.