يبدو أن الجوانب الإنسانية الحزينة والمفرحة المتصلة بفاجعة أمطار وسيول جدة ستظل توفر مادة للحديث والكتابة سنوات عدة، قبل أن ينسى الناس تفاصيل تلك الفاجعة الأليمة. فقد أوجدت الكارثة عشرات العائلات السعودية بلا وثائق أو هويات شخصية بعدما أخذت السيول أوراقهم الثبوتية وجرفتها مع الأرواح والأثاث والسيارات. وفيما فقدت فاطمة التي لم يمض على زواجها سوى أشهر كل ممتلكات عش الزوجية، حين أغرقت مياه الفيضان شقتها، وكادت تودي بها وهي حبلى في الشهر السادس، لكن عناية الله أنقذتها. أما «أم سلمان»، فليس ثمة ما يعزيها سوى الدمع السخين، فقد أرسلت سلمان ليتفقد إخوته مع بدء هطول الأمطار، وحين دهم السيل منطقتهم استطاع إخوته النجاة بالصعود إلى طابق أعلى، بيد أن السيل قرر أن يصطحب سلمان الصغير معه. ولا تريد أم سلمان أن تصدق أن ولدها لن يعود، وأنه لن يسمع أناتها ونداءاتها التي لم تنقطع منذ انقطعت أخباره عنها. ويقول سعوديون نجوا من السيول إنهم أضحوا بلا أوراق ثبوتية بعدما أخذت السيول ممتلكاتهم. لكنهم يشعرون بقدر من الراحة حين يحكون لزائريهم كيف تناسى أقارب الزوجة الأولى لأحد أبناء حيهم الخلافات، وشمروا سواعدهم لإنقاذ «ضرّة» شقيقتهم لتنجو بحملها من موت محقق. (راجع ص9) وتشير العروس «فاطمة» التي كانت لا تزال تسترجع أيام «شهر العسل» السعيد قبل ستة أشهر إلى أنها فوجئت أثناء هطول الأمطار بسيل عارم يقتحم الشقة، وظل منسوب الماء الداهم يرتفع حتى فاق نصف قامة الفرد، ولم يكن أفراد الأسرة وحدهم الذين يسبحون في ذلك الخضم، إذ حمل السيل معه قطع الأثاث، وما أمكن جرفه من أحجار وأخشاب وحديد وزجاج. وبصعوبة شديدة نجحت فاطمة وذووها في التسلق إلى سطح البناية القصيرة بعد ساعات من العراك ومصارعة الموت، وانتظروا فوق السطح ساعات عدة حتى حضر أحد أقاربهم لإنقاذهم. أما «أم سلمان» فخرجت تتفقده في الشوارع المظلمة على رغم الوحل وخطورة البيوت المتهدمة. ولما لم يجب حبيبها الغائب نداءها، ذهبت إلى محل إقامتها الأولى في حي المحجر لتطرق أبواب الجيران السابقين عساه أن يكون قد لاذ بأحد بيوتهم. لكنها عادت مفعمة بالحسرة، يغص حلقها بالعبرة، ولا تزال غير قادرة على أن تصدق أن ابنها البكر سلمان أخذه السيل إلى حيث لا يدري أحد. وهل يعرف أحد من أين يأتي السيل؟ وأين يذهب؟