قلق... نهرب، نغرق، نبقى ننجو. نتعلق بقشة أمل، وندعو، ليس لنا إلا الدعاء نستبدل به بكاء الأطفال ووجل النسوة. من يجرؤ أن يقول لنا إن الطوفان مستحيل، أو إن وضع «البحيرة القذرة» تحت السيطرة. هل سنسمعه ممن بناها فوق رؤوسنا؟. ألم يحدث المستحيل لجيراننا في أحياء قويزة؟. وضع يعيشه سكان أحياء شرق الخط السريع في جدة، يختصره العم سعد الغامدي وهو يسرع بإخراج بعض أفراد أسرته من منزلهم، في كلمة واحدة «رعب». سكان الأحياء انقسموا في قراراتهم، وإن جمعهم الخوف، بعضهم قرر النزوح وفعل، التقط ما خف حمله وهرب من المنطقة إلى حي آمن أو أقارب بعيدين. البعض الآخر ظل في منزله مكرهاً أو مختاراً، ليس له جبل يعصمه من الماء، أو استسلم لأقدار الله. فيما حارت مجموعة ثالثة في مصيرها، خرجت ساعات ثم عادت، وهي كمن يقف على خط النار مستعداً لأي طارئ. محمد الحربي موظف في أمانة جدة، لم يكد يجف عرقه من عمله الميداني في حي قويزة في متابعة رفع أنقاض الطوفان، حتى فاجأته أخبار انهيار بحيرة الصرف المتربعة أعلى الحي الذي يسكنه فعاد إلى منزله «مرعوباً»، لا يستطيع الدخول وواجبه ينتظره، ولا يستطيع الذهاب وخوفه على أسرته يتضخم. يقول الحربي بلغة المعتاد على الروتين إنه غير خائف ومطمئن، لكن ملامحه وطريقة وقوفه أمام منزله تقول عكس ذلك، فيما يعترف الغامدي أنه «مرتعب ولا يثق في أي كلام مطمئن، خصوصاً بعد أن تلقى اتصالات من أقاربه تفيد بتلقيهم تحذيرات رسمية من الدفاع المدني بحصول تسرب في البحيرة، ومطالبتهم بالحذر»، فقرر الهرب بأسرته «لأن الفرار خير من الغرق في مياه الصرف». «الحياة» رصدت في وقت متأخر من ليل البارحة مواطنين جمعتهم المأساة، فقرروا المرابطة بالقرب من البحيرة المرعبة، مؤكدين أنهم لا يستطيعون الخروج من منازلهم، ولا يستطيعون البقاء فيها والقلق يأكل أعصابهم، فاتخذوا من أحد التلال العالية بالقرب من بحيرة الصرف موقعاً للمراقبة، والرصد المباشر. يقولون إنهم سيظلون يرقبون الوضع بأعينهم، حتى لا تفاجئهم كارثة مثل التي فاجأت جيرانهم في حي قويزة، وحتى يتمكنوا من إنقاذ أسرهم لو لاحظوا أمراً مريباً. الحال العامة في تلك الأحياء يكسوها الرعب والقلق. الناس لم يعودوا آمنين داخل بيوتهم، وفوق أسرتهم. الأمان غاب والمواطن فقد الثقة في المسؤول وتصريحاته، وحتى في قراراته. وإن كان مستحيلاً إحياء الموتى في «كارثة جدة»، فإنه من الممكن المحافظة على الأحياء من كارثة أسوأ، حتى لا تضيع الجثث الطافية فوق المياه والمعلقة في أغصان الشجر، هباءً.