قبل نحو عام، سُجن المحامي الروسي، سيرغي ماغنيتسكسي، وهو أحد محامي شركة الاستثمارات البريطانية «هيرميتدج كابيتل مانجمنت» احتياطياً في تهمة التهرب الضريبي، في سجن ماتروسكايا تيكينا في موسكو. وطوال أشهر، وجه المحامي المعتقل رسائل الى ادارة السجن يشكو فيها قذارة الحمامات والمغاسل، وتردي شروط النظافة، والإهمال الصحي، ومنع علاج وصفه الأطباء عنه. وقبل أيام توفي ماغنيتسكسي. وزعمت إدارة السجن أن المحامي، وهو في عامه ال37، ووالد طفلين صغيرين، توفي ب «سكتة قلبية»، وأبلغت خبر وفاته الى والدته عند زيارتها السجن لإيداع طرد. ويدحض محامي ماغنيتسكسي مزاعم إدارة السجن، ويقول إن وكيله توفي من آثار مرض أصاب جهازه الهضمي وتُرك من غير علاج طبي. ففي السجن، فقد المحامي 20 كلغ. وتنفي النيابة العامة أن المحامي اشتكى من تدهور وضعه الصحي والافتقار الى العناية، على رغم ان ماغنيتسكسي أسِف في جلسة استماع عقدت في أيلول (سبتمبر) الماضي من حؤول سلطان السجن دون مواصلة علاجه الصحي. وأجابه ممثل ادارة السجن أنه في وسعه استئناف علاجه بعد الإفراج عنه والخروج من السجن. وليست وفاة ماغنيتسكسي حلقة من حلقات الإهمال في السجون الروسية فحسب، فهو سُجن موقتاً واحتياطياً، وبراءته راجحة. ولكن المحققين كانوا يحاولون حمله على الإدلاء بشهادة تتهم مؤسس «هرميتدج»، وليام براودر، بالتهرب الضريبي. وطوال عام، منعوا عنه الزيارات العائلية، وغيّروا مكان احتجازه بين أربعة سجون. فهو «رهينة» النظام، شأن فاسيلي ألكسانيان وسفيلتانا باخمينا، وكيلي شركة يوكوس النفطية التي صادرها الكرملين وحلّها. فاحتجاز شخص مريض متهم بجرائم اقتصادية أصبح وسيلة تحقيق سائرة ومتفشية... وهي سياسة انتقام من القرون الوسطى»، على ما كتبت صحيفة «فيدوموستي» الروسية في 18 الشهر الجاري. وتسلِّط وفاة ماغنيتسكسي الضوء على ابتلاء «هيرميتدج»، وهي كانت ابرز شركة استثمار في روسيا وأنشئت في 1996. وصاحبها هو ويليام براودر، حفيد أحد مؤسسي الحزب الشيوعي الاميركي. وبلغت قيمة أوراقها المالية نحو 4.5 بليون دولار، ووظفتها في شركات شبه عامة، مثل «غازبروم» و «روسنفت» و «سبربنك». ودعت الشركة الى التزام معايير الشفافية المالية، ورصدت الفساد في الشركات. ولم يطل الأمر فأظهرت السلطات الروسية استياءها. ففي 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، منع وليام بروادر من دخول روسيا، وهو حط على مطار شريمتيفو في موسكو، وحُمل على العودة أدراجه الى لندن. وبعدها، أعلنت السلطات الروسية أن براودر هو مصدر «خطر يتهدد قدرات البلاد الدفاعية، وأمن الدولة، والنظام العام، وصحة الشعب». فسحبت «هرميتدج» معظم استثماراتها من روسيا. ولكن براودر لم يتراجع. وفي 26 كانون الثاني (يناير) 2007، التقى نائب رئيس الوزراء الروسي يومها (والرئيس الراهن)، ديمتري ميدفيديف، في دافوس، وطلب منه تجديد تأشيرته. وبعد اسابيع، بدأت المتاعب. ف «هرميتدج» احتفظت بملكية ثلاث شركات روسية توقفت عن العمل تمهيداً للإغلاق. وفي شباط (فبراير) 2007، اتصل اللوفتنت – كولونيل من وزارة الداخلية، أرتيوم كوزنيتسوف، بممثل شركة «هرميتدج» للبحث في شؤون التأشيرة، وقال إن التأشيرة هي «رهن ما تقدمه» الشركة. ولم يعاود ممثل المؤسسة الاتصال بكوزنيتسوف. وفي 4 حزيران (يونيو) 2007، داهم 25 شرطياً، على رأسهم كوزنيتسوف، مقر شركات «هرميتدج» الثلاث، وشركة «فايرستون أند دانكن» للاستشارات القانونية. واعتدوا على عدد من الموظفين، وصادرت الشرطة أجهزة كومبيوتر، وصكوكاً مالية، وأختاماً، وبيانات ضريبية، وحملت الأجهزة المصادرة والوثائق في شاحنتين. وبعد ايام، اكتشفت «هيرميتدج» وشريكها، مصرف «آيتش أس بي سي»، أن ملكية الشركات الثلاث انتقلت الى فيكتور ماركيلوف، المقيم في ساراتوف، وهو سجين سابق بتهمة قتل. ومنذ الإفراج عنه، تزدهر أعمال ماركيلوف، مؤسس شركة «بلوتون» التي باتت تملك الشركات الثلاث «المسروقة». ويشهد خبراء قانونيون أن الوسيلة الوحيدة لنقل الملكية في روسيا هي حيازة أختام الملكية الأولى وصكوكها الأصلية. والصكوك هذه والأختام كانت في عهدة الشرطة. وفي كانون الاول (ديسمبر) 2007، طالب صاحب الشركات الثلاث وشركاؤه مصلحة الضرائب الروسية تعويضهم فائضاً ضريبياً قدروه بنحو 230 مليون دولار. وبعد ثلاثة أيام، استجاب الطلب، وأودعت السلطات الروسية الأموال في حسابين مصرفيين. وطرقت «هرميتدج» و «آيتش أس بي سي» ابواب النيابة العامة الروسية، ووزارة الداخلية، والحكومة، والرئيس، ولجنة مكافحة الفساد. ولكنها لم تلق آذاناً صاغية. وتلقى محامو الشركة والمصرف تهديدات بالملاحقة القضائية. ولكن سيرغي ماغنيتسكسي لم يهب التهديدات. وادعى على اللفتانت - كولونيل كوزنتسوف بسرقة الشركات الثلاث. وبعد شهر من ادعائه، استدعي الى التحقيق، وأوقفه كوزنتسوف. ولقي حتفه في السجن. * مراسلة، «لوموند» الفرنسية، 21/11/2009 إعداد م. ن.