الأقرب إلى المنطق البراغماتي، في ما خصّ صفقة شاليت، أن «حماس» كانت معنية أولاً، وقبل كل شيء، بصفة التبادل، ولا تريد تعكير صفو الأجواء الإيجابية المتعلقة بالصفقة وطريقة إخراجها، غير أن قليلاً من التمعن في سلوك «حماس» السياسي والميداني، يكشف وجود ما هو أبعد من هذا الهدف الآني، ولا سيما في خضم هذه الأجواء السياسية الملتهبة التي أفرزت موقفاً فلسطينياً رسمياً يقترب كثيراً مما كانت تطالب به «حماس» والعديد من الفصائل والأحزاب والقوى والمنظمات والمؤسسات الشعبية الأخرى. والمقصود، هو وقف التفاوض العبثي مع الإسرائيليين، والكف عن اعتماد ديبلوماسية المفاوضات كخيار وحيد للفلسطينيين، وهندسة استراتيجية جديدة من قبل أوسع ائتلاف وطني فلسطيني، تعيد الاعتبار للبرنامج الوطني، وتعتمد كافة وسائل النضال والمقاومة، بما فيها المقاومة المسلحة، وتستند إلى أوسع جبهة مساندة عربية وإقليمية ودولية، فضلاً عن إعادة بناء المؤسسات الوطنية ومشاركة الجميع في إطارها، وإعادة السلطة إلى مكانها الطبيعي، بوصفها أداة من أدوات البرنامج الوطني، ومرجعيتها منظمة التحرير، وينحصر دورها في تلبية الاحتياجات المعيشية والمباشرة لأهل الضفة والقطاع بعيداً من لعب دور سياسي، وبحيث تكون مجرد مرحلة موقتة على طريق إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على حدود 1967 وعاصمتها القدس. ما يرجح وجود مستويات أخرى من الاعتبارات لدى «حماس» التي يفترض المنطق، والمصلحة الوطنية الفلسطينية، أن تنحو باتجاه شد أزر الموقف الرسمي لمنظمة التحرير والسلطة، يستند، وفق المعطيات المختلفة، إلى محاولة الحركة إجراء فصل تعسفي ما بين تعاطيها مع الملف الداخلي الذي تبدي حياله، وتحت ذرائع غير مبررة، تشدداً لا يمكن إقناع أقرب الأصدقاء بحيثياته وصدقيته، وبين سلوكها السياسي والميداني تجاه إسرائيل واستيطانها ومبادرات قادتها الأخيرة، ولا سيما مبادرة وزير الحرب الأسبق شاؤول موفاز، ومن ثم مبادرة الوزير الحالي باراك ورئيس الكيان شمعون بيريس، بمعرفة وتشجيع من نتانياهو، حول إقامة دولة فلسطينية موقتة على نصف أراضي الضفة الغربية، والتي رفضتها السلطة الفلسطينية. حيث رفضت «حماس»، التي لم تفوت أية مناسبة لشن هجمات إعلامية، تصل إلى حدود التخوين، على رئيس وأركان السلطة الفلسطينية، وذلك بموازاة تشديد قبضتها على قطاع غزة الذي يعيش نحو 67 في المئة من أبنائه فقراً مدقعاً، فيما تعتمد نحو 80 في المئة من الأسر الفلسطينية هناك، على المساعدات الغذائية الإغاثية، وفق ما أوردته المؤسسات الفلسطينية والدولية، ومن ضمنها مكتب الأممالمتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، رفضت التوقيع على الورقة المصرية للمصالحة كونها «لم تتضمن أي برنامج أو استراتيجية سياسية تكون بمثابة الدستور الذي يحمي أي وحدة وطنية لأي شعب» ناهيك عن أنها «إجرائية لا غير ولا تتضمن حلاً»، وجاءت «مفصلة على مقاس التسوية وشروط اللجنة الرباعية ومجموعة أوسلو» من الفلسطينيين، وذلك قبل أن تمنع لجنة الانتخابات المركزية التي شكلتها السلطة من دخول قطاع غزة، ما أجبر الأخيرة على إعلان عدم إمكانية إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في كانون الثاني (يناير) المقبل. على أنه في مقابل هذا النمط من السلوك السياسي والميداني الداخلي المتشدد، والذي لم يخل من إشارات انقلابية على السلطة، من نمط إشارة رئيس المجلس التشريعي عزيز دويك إلى أن القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية ينص على تسلمه منصب الرئاسة لمدة ستين يوماً بعد انتهاء الولاية الدستورية للرئيس، أي إلى حين إجراء انتخابات جديدة، على رغم أن «حماس» التي انقلبت على السلطة هي التي ترفض مبدأ الانتخابات «دون توافق وطني، في مقابل ذلك ثمة «غموض مفتعل» في التعاطي مع الاحتلال الإسرائيلي ومبادراته المرفوضة من غالبية الشعب الفلسطيني، فبالإضافة إلى إعلان وقف الصواريخ الذي زعمت «حماس» أن ثمة توافقاً فصائلياً بشأنه، والذي جاء بعد أيام قليلة على إعلان رئيس الوزراء السابق المقال إسماعيل هنية بأن حركته لا ترغب، ولا تتطلع لجولات جديدة من العنف ضد الاحتلال، لم يقدم خطاب «حماس» وسلوكها السياسي ما يثبت رفضها الحازم لهذه المبادرات الإسرائيلية، لا بل صرَّح القيادي في الحركة، ورئيس كتلتها في المجلس التشريعي، مشير المصري، بأن مبادرة موفاز تستحق التمعن، والمهم هو الأفعال وليس الأقوال، ما أعاد إلى الأذهان مبادرة مستشار رئيس الوزراء السابق أحمد يوسف حول «الدولة الموقتة»، والتي عرفت باسم «مبادرة جنيف». هذه المؤشرات التي أحدثت لغطاً واسعاً حول موقف «حماس» التي تفقد، تباعاً، كافة الأوراق التي كانت تدثر مشروعها المبرمج الذي يمضي على إيقاع تعميق فجوة الانقسام، ووأد كل محاولات لم شمل جناحي الوطن المحتل، تحت يافطة القاعدة الشرعية «الضرورات تبيح المحظورات»، توَجه رئيس السلطة الفلسطينية باتهامه «حماس» بالتفاوض سراً مع الإسرائيليين في جنيف على أساس «الدولة المؤقتة» التي تتحدث عن ضم 50 في المئة من الضفة الغربية للدولة الفلسطينية، مع «فبركة» حل ما للقدس الشرقية التي تخطط بلديتها اليهودية لبناء 15 ألف وحدة سكنية جديدة فيها، إضافة إلى ال 900 وحدة استيطانية التي أعلنت عنها الحكومة أخيراً، وفق ما أكد العضو العربي في الكنيست الإسرائيلية الدكتور أحمد الطيبي. وكل ذلك مقابل هدنة لمدة 15 عاماً يمكن إسرائيل خلالها ضم النصف الآخر من الضفة، فضلاً عن إخراج مدينة القدس، وبشكل نهائي وحاسم، من التداول السياسي، وتهيئة التربة لخلق وقائع جديدة تتيح لإسرائيل، وفق ما يرى ميرون بنفستي في «هآرتس»، استبدال الحصار المطبق على قطاع غزة بسياسة عدم التدخل، وإفساح المجال لتحقيق تنمية اقتصادية في غزة، كوسيلة لتحويل الموارد البشرية من العنف إلى آفاق تطورية بنَّاءة، فيما تتوسع المستوطنات في الكانتون الفلسطيني (الضفة الغربية) الذي تتقلص مساحته، يتحول بسرعة إلى منطقة ملحقة بإسرائيل بكل معنى الكلمة، والذي يعيش مجريات سياسية تشبه تلك التي مر بها «عرب إسرائيل» منذ 1948، وهو ما سيتكشف تماماً مع تصفية السلطة الفلسطينية. * كاتب فلسطيني