ينظر الى الأفكار والمبادئ المتصلة بما يعرف بحقوق الإنسان، على أنها أفكار أنتجتها الحداثة في القرن العشرين. صحيح أنّ البلورة الأخيرة لهذه الحقوق قد تحققت بعد الحرب العالمية الثانية من خلال «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، وتبعه جملة إعلانات متمّمة تناولت صعداً مختلفة، إلا أن إرهاصات أفكار حقوق الإنسان تضرب جذورها عميقاً في مجمل الثقافات الإنسانية. وأية نظرة الى حضارات الشعوب، القديمة منها والحديثة، يكتشف الباحث كم أن كثيراً من المبادئ يمكن رؤيتها متناثرة هنا وهناك. وإذا كانت نظريات حقوق الإنسان قد وجدت ذروة المدافعين عنها في المجتمعات الغربية، إلا أن الغرب لا يحتكر هذه القيم المعبّر عنها في الميثاق، لأنها في النهاية محصلة التلاقح الذي عرفته وتعرفه الثقافات الإنسانية في مختلف أصقاع العالم. ومن الكتب التي ناقشت في «فكرة حقوق الإنسان»، كتاب تشارلز بيتز (الصادر عن سلسلة عالم المعرفة). يعيد الكاتب تاريخ الممارسة الحديثة لحقوق الإنسان، الى فترة انتهاء الحرب العالمية الثانية وإقرار الإعلان العالمي عام 1948. لكنّ فكرتها المحورية تعود الى تاريخ طويل داخل المنظومة الدولية لأوروبا والأطلسي. يمكن أن نجد بواكير الفكرة في معاهدة وستفاليا 1648 التي أنهت الحروب الدينية وكرّست ضماناً دولياً أوروبياً للتسامح الديني. وتوجد مؤشرات لهذه الحقوق في الحركة المناهضة للعبودية التي قامت أواخر القرن الثامن عشر، ووصلت ذروتها في القرن التاسع عشر. وتشهد عليها تدخلات الدول الأوروبية في شؤون الإمبراطورية العثمانية، خصوصاً في المسألة المتعلقة بحماية الأقليات الدينية، وقد أقرّ كونغرس برلين في عام 1878 مبدأ الحرية الدينية باعتباره شرطاً مسبقاً للاعتراف بالدول الجديدة. على رغم كل الشذرات المتناثرة هنا وهناك، واتصالها الى هذا الحد أو ذاك بفكرة حقوق الإنسان، إلا أن الصياغة المتكاملة لهذه الحقوق على مختلف مستوياتها، تدين الى النصف الثاني من القرن العشرين مع ظهور المواثيق الدولية الخاصة بها. تشكّل ديباجة الإعلان العالمي، التوجّه الواجب التزامه لدى كل الدول المنتسبة الى منظمة الأممالمتحدة. بعد الإعلان الدولي، لم تعد حقوق الإنسان فئوية تتصل بهذه الدولة أو بشعوب محددة، بل باتت تحمل صفة كونية تفرض نفسها على المواثيق والدساتير المحلية، بل وتعلو عليها. تشير الديباجة الى «أن الاعتراف الدولي بحقوق الإنسان ضروري لحماية الكرامة المتكافئة لجميع الأشخاص، وأن احترام حقوق الإنسان شرط لقيام علاقة ودّية بين الدول». والديباجة تنظر الى حقوق الإنسان بوصفها قيمة أساسية في ذاتها وليست هبة إلهية، وهو ما يميّز الإعلان عما ورد في إعلانات الثورتين الأميركية والفرنسية اللتين رأتا أن الخالق منح الناس حقوقاً طبيعية ومقدّسة. تقوم الحقوق الواردة في الإعلان العالمي ومعه جملة المواثيق والمعاهدات المتمّمة، على جملة مبادئ. المبدأ الأول، يتعلق بالحقوق من أجل الحرية والأمن الشخصي، من قبيل حياة وحرية وأمن الشخص، تحريم العبودية والتعذيب والعقوبات القاسية أو المهينة، حق الاعتراف بالمرء كشخص قانوني، المساواة أمام القانون، منع الاعتقال التعسّفي، افتراض البراءة مسبقاً. يتصل المبدأ الثاني بحقوق الإنسان في المجتمع المدني: ضمان الخصوصية في العائلة والبيت والمراسلات، حرية الحركة والإقامة داخل الدولة، حق الهجرة، حقوق متساوية للرجل والمرأة في الزواج، وداخل الحياة الزوجية، وفي الطلاق، وحق الزواج عن قبول ورضا. يتناول المبدأ الثالث، الحقوق داخل الدولة من قبيل: حرية الفكر، والضمير والدين، حرية التجمع والتنظيم، حقوق المشاركة السياسية، والاقتراع الشامل والمتكافئ. ويتطرق المبدأ الرابع الى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تشدّد على تأمين مستوى لائق للعيش بما في ذلك طعام ولباس وسكن ورعاية صحية ملائمة، وتعليم أولي مجاني وإلزامي، حرية اختيار العمل، تعويض عادل، أجر متساو للعمل المتساوي، حق الانضمام الى النقابات وتحديد معقول لساعات العمل، الضمان الاجتماعي... أما المبدأ الخامس فهو المتّصل بحقوق الشعوب من حيث هي كيانات جمعية، وبخاصة حق تقرير المصير والسيطرة المشتركة على الثروات والموارد الطبيعية. مكاسب الشعوب ألهمت مبادئ حقوق الإنسان معظم الحركات السياسية في العالم، بحيث باتت تشكل مستنداً لمطالبها السياسية. وأجبرت الدول المنضوية في المنظمة العالمية، على إدخال فكرة حقوق الإنسان في صلب تشريعاتها الأساسية، وهي مكاسب مهمة للشعوب في مواجهة الممارسات المناهضة لهذه الحقوق. لكنّ التنفيذ في كل دولة يختلف وفقاً لدرجة تطوّر المجتمع السياسي والمدني، ومدى القناعة بأن حقوق الإنسان شرط أساسي لتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. إذا كانت المجتمعات الغربية المتقدّمة قد قطعت أشواطاً في تنفيذ حقوق الإنسان، فهذا يعود في أساسه الى ما حصّلته هذه المجتمعات من حداثة، والى ما عانته على امتداد تاريخها من حروب دينية ومذهبية، ثم من حروب عالمية. إلا أن المجتمعات السائرة في طريق النمو، ومنها المجتمعات العربية، وضعت فكرة حقوق الإنسان في تشريعاتها بوصفها «ديكوراً» موجهاً الى الخارج، ثم قيّدت هذه الحقوق بجملة قوانين تلغي مفاعيلها عملياً لمصلحة إجراءات أمنية تجرّد الفرد من حقوقه وتحدّ من الحريات السياسية والفكرية، ما يجعل النضال في سبيل حقوق الإنسان في هذه المجتمعات قضية مركزية لكلّ التيارات السياسية والمجتمعية. في المقابل، تطرح كيفية تعاطي الدول الغربية مع حقوق الإنسان معضلة كبيرة. صحيح أن المبدأ بات عالمياً، وأن المعاهدات والمواثيق تفرض على الدول التزامات معينة لتطبيق الميثاق ومنع انتهاك هذه الحقوق، بما فيها حق التدخل العسكري للمنظمة العالمية بغية تنفيذ هذه الحقوق والحفاظ على مكتسباتها. جرى الانحراف بعيداً عن جوهر هذا المبدأ بحيث باتت حقوق الإنسان مشجباً تعلق عليه الدول العظمى كل تبريراتها للتدخل الاستعماري في أكثر من مكان. لعل مقولة مواجهة الإرهاب السائدة منذ سنوات، أكبر دليل على استخدام الغرب حجة التدخل العسكري واحتلال الدول لفرض حقوق الإنسان. الجانب الثاني والخطير في هذا المجال، هو أن حقوق الإنسان والدفاع عنها والتدخل في سبيلها، تكاد تنحصر بالشعوب الغربية. تقوم الدنيا ولا تقعد عندما يجري الاعتداء على مواطن غربي، فيما لا تشكل إبادة مجموعات بشرية في مجتمعات غير غربية سوى ردود فعل كلامية شاجبة، بحيث باتت العنصرية تحكم ممارسة هذه الحقوق. على رغم الانحراف في استخدام حقوق الإنسان وتوظيفها خارج أهدافها، إلا أن مبادئ الميثاق تظلّ تمثل قيماً إنسانية شاملة من المهم التمسّك بها والنضال من أجل تحقيقها، لأنها تشكّل أحد الأعمدة الرئيسية في النضال من أجل الديموقراطية.