كان متوقعاً أن تكون مسرحية لينا خوري الجديدة «صار لازم نحكي» (مسرح المدينة) أشد عمقاً وطرافة من مسرحيتها السابقة «حكي نسوان» التي قدمتها عام 2006 وأحدثت سجالاً فنياً وثقافياً وواجهت الرقابة اللبنانية التي اقتطعت منها جملاً ومواقف. فالمسرحية الجديدة ليست بغريبة عن جوّ الأولى ولا عن الروح النسوية - الذكورية التي سادتها أو عن الصراع العبثي واللامجدي بين الرجل والمرأة. لكن لينا خوري بدت متنبهة لما حصل إزاء مسرحيتها الأولى فمارست ما يشبه الرقابة الذاتية على عرضها الجديد، متخلية عن الجرأة القوية التي تميزت بها مسرحيتها السابقة والتي أثارت حفيظة الرقابة وبعض الجمهور والإعلام. لم تتراجع لينا خوري عن رؤيتها التي باتت معروفة، الى العلاقة بين الرجل والمرأة، لكنها لم تخرجها من اطارها اليومي «النافل» ومن سياقها الأفقي أو السطحي. فالهموم التي تشغل نساءها هي نفسها تقريباً في مسرحيتها السابقة، وكذلك آلية (ميكانيزم) الكلام الذي تتفوّه به النسوة وقد مال الى المزيد من الثرثرة المدروسة، مضافاً اليها كلام رجال بدوا مصابين بالداء نفسه. سعت لينا خوري الى ترسيخ فعل المسرحة في العرض الجديد والى خلق حيّز أو فضاء ممكن، معتمدة لعبة المسرح داخل المسرح تأكيداً لهوية هذا العرض، بشخصياته شبه «المنفصمة» بين واقع الخشبة وواقع الحياة. لكن هذه اللعبة لم تتمكن من انقاذ العرض من الوقوع في شباك السطحية أو المباشرة وقد قصدتهما لينا، ولم تنجح تماماً في تحقيق ما قصدت اليه. فما يفصل بين المباشرة والابتذال (الفني طبعاً) خيط رفيع، وإن لم يحسن صاحب العرض التقاطه وقع العرض في حفرة المبتذل. الكلام أو الثرثرة لم تحمل جديداً ولا الشخصيات ولا الأداء «البولفاري»، المؤسلب والمفتعل والمبالغ فيه، وبدت الشعارات أو «الكليشهات» كأنها تتكرر على ألسنة الممثلات والممثلين. عناوين وعبارات و «مقولات» باتت مضجرة نظراً لإغراقها في الواقعية السطحية المستهلكة والمستنفدة. كلام يعرفه الجميع ويحفظونه غيباً: الحب، الجنس، الخيانة، الغريزة، الزواج، الطلاق... ثم التزيين والتجميل والماكياج والمال... ثم التواصل واللاتواصل بين طرفي هذا الثنائي الأبدي: الرجل والمرأة... ثم هموم الرجل المعروفة جداً ومزاجه المتقلب وذكوريته وخيانته والقناع الذي يضعه على وجهه. أشخاص ليسوا بشخصيات لأن طريقتهم الوحيدة في التواصل هو الكلام، الكلام لا الفعل، الكلام الذي يقول كل شيء كي لا يقول شيئاً، على خلاف الكلام في مسرح أوجين يونيسكو الذي لا يقول شيئاً كي يقول كل شيء. وقد تكون هذه «المفارقة» التي لم تعها لينا خوري ورودني الحداد (الذي شاركها في كتابة النص) هي التي أوقعت العرض في الفراغ اللفظي الذي لم يحمل أي ملمح وجودي. كلام أو كلمات، جمل متقطعة، ونهفات في أحيان، تضحك بعض الجمهور ولا تضحك بعضه الآخر، اتهامات وأكاذيب وأوهام... وكأن التمثيل فعل مبارزة كلامية بين أشخاص يبحثون عن شخصياتهم ولا يجدونها، وسط هذه اللعبة التي لم تعر اهتماماً لمعنى لعبة المسرح داخل المسرح. فالمخرج الذي يفاجئ الجمهور ويدخل العرض يكشف للفور أن ما يقدم على الخشبة (الحانة) ليس إلا تمارين على مسرحية... لكن المخرجة لم تحسن توظيف هذه اللعبة ولم تسع الى إسباغ معنى عليها كما فعل بيراندللو مثلاً في مسرحيته «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» أو ريمون حبارة في أعمال له كثيرة أو زياد الرحباني في «شي فاشل». تركت لينا اللعبة على سجينة اللاعبين بها، أي الممثلين الذين لم يحاولوا التقاط المعنى أو الذي من المفترض أن يكون في صميم هذه اللعبة وحافزاً عليها. أما الممثلات والممثلون الذين استعانت بهم لينا فبعضهم من خيرة الممثلين الشباب ولا سيما غبريال يمّين الذي لم يستطع التحرر من «أبجدية» أدائه السابق لشخصيات طريفة كان لها وقعها الشعبي، وكان في إمكان المخرجة الاستفادة من قدراته وطاقته الكبيرة ومهارته في اللعب. الممثلتان ديامان أبو عبّود وباتريسيا نمور اللتان شقتا طريقهما بألفة ووعي لم تكونا ما كانتا عليه في اطلالات سابقة لهما، وقد انعكس الأسلوب «البولفاري» المفتعل والميكانيكي سلباً على ادائهما ما أوقعهما في الركاكة. وحاول الممثل المعروف جورج الأسمر أن يكسر رتابة الجو في أدائه الطريف ليس مهماً أن تتكئ لينا خوري على نص للكاتب الأميركي جون غراي هو «رجال من المريخ، نساء من الزهرة» الذي اقتبس مراراً، فهي أصلاً لم تأخذ به كنص كامل، بتفاصيله الكثيرة «ورطانته» اللفظية، لكنها وقعت في أسر «النمذجة» و «التنميط» مبالغة في رسم هذه الصورة النافرة للرجل والمرأة، وهي صورة لم تستطع المواقف والمسالك الكوميدية الخفيفة أن تنقذها من الرتابة والملل.