لعله لم يعد مستغرباً أن يبدأ النقاش في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر يجمع اكثر من 200 صحافي عربي وأجنبي، بسؤال مكرر عن «غياب التحقيقات الموضوعية في مجازر غزة والفوسفور الابيض الذي القته اسرائيل على لبنان خلال حرب تموز 2006». فالسؤال الذي طرح محملاً بجرعة غير قليلة من الغضب وشيء من الاتهام الموجه لزملاء تحدثوا عن عملهم في ميدان التحقيقات الاستقصائية والتغيير الذي حققته تلك التحقيقات في مجتمعاتهم، لقي ترحيباً ضمنياً وسط عدد من الحاضرين، لكنه بقي سؤالاً معلقاً من دون إجابة. لسبب ما لم يبادر أحد من الذين جلسوا على المنصة أو من الحاضرين إلى الإجابة، كأن إطلاق «صرخة» من هذا النوع بات لزوم ما لا يلزم في أي تجمع أو لقاء، أو كأن ثمة اعترافاً ضمنياً ومتبادلاً بأن اللعب على وتر «مجازر غزة» و «حرب لبنان» بات وسيلة بديهية ومتوقعة لإثارة المشاعر بحيث يصبح الرد، أي رد، في غير مكانه. لكن الواقع العملي يحمل إجابة واضحة وبسيطة، وإن كانت لا تشفي غضب السائل. ذاك أن تحقيقات استقصائية كثيرة أنجزت بعد حرب غزة، وكشفت استعمال اسرائيل لمواد سامة بناء على تقارير دولية، كما كشفت في المقابل محاولات تصفيات فلسطينية داخلية بين كل من «فتح» و «حماس» في خضم القصف الاسرائيلي على الغزاويين. وأكثر من ذلك أجريت تحقيقات أخرى أثبتت مثلاً عدم استخدام الفوسفور الأبيض في حرب لبنان، نافية أو مثبتة عدداً من الامور التي صارت تقدم بصفتها مسلمات ووقائع غير قابلة للنقاش. طبعاً إجابات من هذا القبيل لا ترضي صاحب السؤال ولا غيره ممن أيده، كأن وحشية الآلة العسكرية الإسرائيلية ما كانت لتكتمل من دون استحضار عنصر من هذا القبيل... تبين لاحقاً أنه غير صحيح! وإذا ما تقيدنا بالنقاش المهني بعيداً من السجالات السياسية، فإنه من اللافت أن يأتي هذا الكلام في سياق مؤتمر عن الصحافة الاستقصائية التي تفرض اول ما تفرض الدقة في المعلومة وتقديم الأدلة عليها. فلو أن السائل قرأ بعض الصحف التي نشرت هذه التحقيقات مثلاً أو أعاد النظر في المسلمات «العاطفية»، لما تجرأ على اتهام زملائه الحاضرين بإضاعة الوقت في مواضيع متفرقة ونسيان «مجازر غزة» بصفتها القضية الرئيسة التي يجب أن يتمحور حولها كل عمل جدي. أما السؤال الآخر، الذي يطرح في مواجهة ذلك «الاتهام» فهو إلى متى يجب أن يبقى الصحافيون أسرى «القضايا الكبرى» التي لا يملكون سبيلاً إلى تغييرها، فيما هم قادرون على إحداث تغيير فعلي في قضايا حياتية لا تقل أهمية عن تلك، لكنها غالباً ما توضع في منزلة أدنى؟ ليس بسيطاً أن يؤدي تحقيق صحافي إلى إغلاق مصنع يلوث نهر النيل ويضر بالسكان والبيئة النهرية التي حوله. ولا هو بسيط أن تنظف السلطات السورية مكب نفايات أدَّى إلى انتشار أمراض جلدية مستعصية في محيطه، بناء على معلومات موثقة في تحقيق استقصائي. ومن دون أن يدَّعي هذان التحقيقان أو غيرهما إحداث ثورة في المجال البيئي في اي من البلدين، يبقى ان خطوات صغيرة ولكن واثقة من هذا النوع، هي ما يجب أن ننتظره من الصحافيين اليوم، قبل أن نطالبهم بحل قضايا عجزت عنها الدول. وفي السياق نفسه من المطالبة بحصر العمل بقضايا نضالية على حساب العمل المهني المحترف، يمكن استحضار نقاش آخر جرى خلال ورشة عمل أدارها تيم سيباستيان، مقدم برنامج «هارد توك». ففيما كان سيباستيان يشرح أسلوبه في إجراء المقابلات واستخلاص المعلومات من الضيف، لتوظفيها في سياق تحقيق استقصائي، تلقف اكاديمي الحديث وراح يتهم سيباستيان بالمبالغة في تقديم نفسه كمحاور جيد وأن «سايمور هيرش هو أفضل من يجري المقابلات والتحقيقات بعكسك! (اي سيباستيان)». لا شك أن أسلوب مقدم «هارد توك» في المقابلات يحتمل النقاش من حيث إمكانية تطبيقه في عالمنا العربي، وظروف عملنا في مؤسساتنا وما يحكم ذلك من حسابات، إلا ان الهجوم الذي تعرض له لم يكن مرده مهنياً، بل مجرد إعجاب بهيرش ل «نصرته قضايانا»، ولا شيء غير ذلك. لم يطالب الأكاديمي هيرش بكشف مصادر معلوماته في التحقيقات التي خطَّها عن لبنان أخيراً، واثبتت مدى انحيازه لفريق سياسي دون آخر. لم يطالبه بأي شيء مما دعا إليه المؤتمر وجاء هو نفسه ليحضره. تمسك فقط بما يخدم «قضيته السياسية» غافلاً عن حرفة ومهنية لن تستقيما قبل التخفف من هذه القضايا.