في السنوات الثلاث الماضية أحرز معسكر الممانعة قدراً من الانتصارات هائلاً. فقد انتزع غزّة وفصلها عن سلطة رام الله «المعتدلة»، وأوقف نموّ حركة 14 آذار اللبنانيّة ثمّ أحبط إنجازاتها، وراهن على إضعاف مصر من خلال معبر رفح، وعلى إنهاك السعوديّة من طريق الحوثيّين، موسّعاً المسافة بين تركيا، «النيو-عثمانيّة»، وحلفائها الأطلسيّين. وفي الوقت نفسه، بارح النظام السوريّ عزلته التي بدأت في 2005 ونجا النظام الإيرانيّ، حتّى إشعار آخر، من الانتفاضة التي أطلقتها الانتخابات. وإذ عجزت الولايات المتّحدة عن تحقيق أيّ إفادة صلبة من وجودها في العراق، وباشرت حزم أمتعتها، استمّرت طهران في تعزيز نفوذها العراقيّ، وربّما في الاقتراب من امتلاك السلاح النوويّ. هذه لائحة انتصارات باهرة لا يشكّك فيها إلاّ المكابر والمنكر. لكنْ لا بأس باستذكار السبعينات حين انتصرت قوى مقرّبة من الاتّحاد السوفياتيّ في بلدان متعدّدة تعدّد قوس القزح وألوانه، شاملةً فيتنام وجنوب اليمن وأثيوبيا وأنغولا والموزامبيق وأفغانستان ونيكاراغوا. بل لا بأس باستذكار الخمسينات حين كان الاتّحاد السوفياتيّ والصين الشعبيّة يقفان (أو يجلسان) في خندق واحد موصول بنصف القارّة الأوروبيّة. وهذه الانتصارات الجبّارة لم تحل دون اندثار الاتّحاد السوفياتيّ، فيما انتقل التناقض الصينيّ – الغربيّ من كونه إيديولوجيّاً ووجوديّاً إلى صيرورته تحسيناً لشروط التكامل والتعاون. فالانتصارات المذكورة لم تكن مؤسّسة إلاّ على القوّة العضليّة، والانتصار بالقوّة العضليّة هزيمة مؤجّلة لأنّ صاحب تلك القوّة لا يملك أيّاً من مواصفات إدامتها، لا في الاقتصاد ولا في الاجتماع ولا في الأفكار. إنّه زند يضرب من دون يد تصنع ومن دون دماغ يفكّر. إذاً ما يحصل في منطقتنا ليس نهاية الكون ولا سبباً للتفجّع. غير أنّ المقلق، في حالنا، أن تتساوى مع الممانعين القوى التي وضعتها الصدفة البحتة في مواجهتهم، فيما يتفوّق الأوّلون عليها بالإرادة والمبادرة والحسم. فأن يتعادل الطرفان في الافتقار إلى الأفكار والتمسّك بالقديم والعجز عن تقديم أيّ اقتراح مبدع في الاجتماع، يجعلنا نتقلّب بين نار يدرك أصحابها أنّهم يشعلونها، ونار يظنّ أصحابها أنّهم يطفئونها. ولحمُنا، في النهاية، تنهشه الناران. وربّما كانت هذه حال المشرق العربيّ راهناً، بما يعيدنا، في فهم الانتصارات والهزائم، إلى ما شهده بلد كفيتنام قبل عقود قليلة: فقد كان نغو دنه دييم أوّل من تولّى رئاسة جمهوريّة فيتنام الجنوبيّة، وكان ذلك في 1955. لكنّ دييم، الأريستوقراطيّ الكاثوليكيّ، لم يتردّد في إبداء كلّ نفور ممكن من التعدّد. فقد عبّر عن حنين رجعيّ وشبه صوفيّ إلى ماضٍ يكاد يكون ميثولوجيّاً يجسّده المجتمع القديم. وهو قد أراد للشعب بأسره أن يبجّل ويجلّ القيم المنسوبة إلى ذاك المجتمع، أي حكم الأريستوقراطيّة وتثبيت منظومة ال «كاست» المغلق والتعاطي مع الثقافات بوصفها مراتب هرميّة جامدة، وأن يعمل على بعثها. لقد كان عهده استبداديّاً وفاسداً، برع فيه أخوه وعائلته سرقةً ونهباً. وهو، في تطبيقه لنظام كاثوليكيّ متشدّد، أثار عداء البوذيّين الذين يعدّون أكثر من ثلثي السكّان. وفيما كانت قوّات «فيتكونغ» الشيوعيّة تتأهّب عسكريّاً وتنمّي قوّتها بسلاح فيتنام الشماليّة والمتسلّلين جنوباً من مقاتليها، كان الصراع يحتدم بين دييم والأكثريّة البوذيّة. في الآن ذاته، وفي عهد جون كينيدي، تخلّت واشنطن عن دييم فأسقطه انقلاب عسكريّ قاده الجنرال دونغ فان منه في 1963. بعد ذاك راحت تتعاقب الانقلابات العسكريّة، وبدا أنّ البلد غير قابل لأن يُحكم. ثمّ في 1965 بات الحاكم الفعليّ رئيس الحكومة الجنرال نغوين كاو كي، وبعده انتقلت السلطة في 1967 إلى الجنرال نغوين فان ثيو الذي كان بدوره فاسداً وعديم النفع. وإذ غسل الأميركيّون يدهم منه (ولنتذكّر الانسحابات والتراجعات الأميركيّة الراهنة)، فهذا ما لم يكن لمصلحة انقلاب عسكريّ هذه المرّة، بل جاء لمصلحة فيتنام الشماليّة وشيوعيّي «فيتكونغ». وفعلاً انتصر المبادرون والمواظبون الطالعون من الغابات ووُحّدت فيتنام بقيادتهم. لكنّها، هي التي انتصرت عسكريّاً، انتهت بلداً مهزوماً، بالغ الفقر، متسوّلاً العون والاستثمار الخارجيّين، ومحاصَراً بتهم المنظّمات الدوليّة بالانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان.