لقد تهيأ لنا من الأمن والعدالة والرخاء ما لم تحظ به بعض الشعوب، لكن ثمة سلوكيات وممارسات إدارية محمومة تجافي المصلحة العامة بعبثية غير مسؤولة وتضاهي في تأثيرها واستعصائها بعض الأمراض المنهكة لجسد الانسان وروحه من خلال نمو خلاياها ومواجهتها لمناعة الجسم لتودعه في نهاية المطاف الى الخاتمة التراجيدية، فمرض السرطان والمحسوبية والإرهاب متلازمة لإنهاك ونخر الجسد على مستوى الانسان، وعلى مستوى الوطن اللذين يمثلان متلازمة الوجود والحياة والنمو. لا يختلف اثنان على صحة ما ذهبت اليه الأدبيات الادارية والتنموية المؤكدة لتأثير المحسوبية على جسد الوطن، بصفتها مؤسساً غير شرعي للانحراف عن مسارات الوجود الكريم والانتاجية والتقدم، وإتاحة الفرص بين أبناء الوطن من ناحية، ومن ناحية أخرى بصفتها وسيلة تعبد الطريق نحو تهميش الكفاءات الوطنية وحجب فرص العطاء الداعمة للنهضة التنموية، واذا كان تشخيص الأمراض المستعصية ممكناً، فإن تشخيص المسؤول عن ذلك ليس سهلاً، فنحن قوم نتأثر بالمظاهر ونستعجل الحكم بالصلاح استناداً على ظواهر الأمور، حتى تكشف لنا دورات الزمن الصورة الحقيقية المرعبة ونكون حينئذ قد أوغلنا في الاستسلام لمخرجات الزيف، وسكن في ذواتنا قدر كبير من الاحباط، لنستوطن دائرة مركز محورها يتجاوز الاحباط ذاته الى الأسوأ، وابعادها تتأرجح بين جلد الذات واللوم والنظر الى أفق التقدم البعيد بعين الحسرة. «المحسوبية والمناطقية» ابن غير شرعي، يعيش بخبث لينتهك حرمة النسيج الاجتماعي، ويعوق التنمية والنهضة ويحول دون وجود الكفاءات والكوادر البشرية المؤهلة صادقة الانتماء للوطن لدفع عجلة التنمية نحو المستقبل ومواجهة التحديات، وهي كذلك باعث لإعاقة التقدم، ومما لا شك فيه أنها في حقيقة الأمر منبع للفساد تستوجب الضرورة تجفيفه. إن الآثار المترتبة على وجودها لا تنحصر في تحقيق المنفعة لضعاف النفوس فحسب، ولا تقف عند وضع المصلحة الخاصة فوق كل الاعتبارات، بل تتجاوز ذلك للخروج بآليات تلحق الضرر بكل ما يقف مواجهاً لها «وهنا مكمن الخطورة». الأمر لا يحتمل المساومة، ما دامت هذه الظاهرة تشكل مناخاً خصباً وأجواءً متشائمة لنمو الفساد والصراع، ولا بد أن يدرك أبناء الوطن مخاطر الاسترخاء لعبور هذه الآفة المستمرة في الانتشار بقوة من خلال حدودهم بتأشيرة الخروج عن شرعية القانون، في الوقت الذي يجب أن تمنع معطيات الوضع الراهن أي مصافحة لهذه السلوكيات الداعية في الأساس الى العودة الى الخلف واستدعاء الزمن الغابر لاستقراء الحاضر والمستقبل وصياغته بناء على صورة ذهنية عارية تخلو من القيم الاخلاقية والانتماء الوطني. إننا عشنا سنوات طويلة ولا زلنا، ونحن نرى ونسمع في سراديب بعض الادارات المعنية بخدمة الأرض والناس، مشاهد ومقولات تحتضن وتروج لهذه الممارسات لرعاية المصالح الخاصة من دون أن يكون لوطننا علينا حق، كل ذلك تحت وطأة إرضاء شهوة «المحسوبية» التي تتغذى على المصالح الضيقة وفضلاتها في أماكن الارتزاق المهجورة من أضواء الوطنية الحقة وأجواء الانتماء المشرقة لتخلخل القيم، وينتشر الاحباط واللامبالاة، وتسود السلبية، وهناك رد فعل مأسوي لانهيار القيم الاخلاقية. المحسوبية والمناطقية تغيب قيمة العمل وترحل المهنية الى زاوية يصعب تحديد المسافة بين أضلاعها، وتهيئ النفوس لقبول التفريط في العمل الوطني، بل تتجاوز ذلك الى إهمال الواجبات العامة وعدم الالتفات اليها والالتفاف عليها، إضافة لما لها من تأثيرات تبلغ حد إزالة معايير الأداء الرقابي وتكفينه، الأمر الذي يشكل عائقاً يحول دون العمل الوطني من خلال فريق العمل الواحد. نحن نعيش في وطن كريم يرفل بأزهى الألوان الديموقراطية التي لا تحجب الحاكم عن المحكوم، والعدالة والمساواة، تحت رعاية كريمة من ولاة أمرنا الكرام، إذ جعلوا من الانسان محور اهتمام الدولة، ورسخوا ذلك المفهوم في صدور التشريعات كبند محوري في قلب دستور بلد «الانسانية» بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز. مانع بن صالح اليامي – جدة [email protected]