ليس ثمة ما هو أسهل من المقارنة بين فيلم «هليوبوليس» للمخرج المصري أحمد عبدالله ومسرحية صمويل بيكيت الشهيرة «في انتظار غودو». لكنّ هذه المقارنة التي يلجأ إليها بعض من يشاهد الفيلم، تبقى عند السطح فقط، أي عند عبارة استراغون «لا أحد يأتي... لا أحد يذهب... لا شيء يحدث»... كما في البناء لناحية تكوين الفيلم والمسرحية من فصلين يحدثان في يومين متعاقبين مكررين. اما في العمق، فنجد ان ما هو ميتافيزيقي وغيبي وخواء كلي في مسرحية بيكيت العبثية، يصبح في «هليوبوليس» واقعاً اجتماعياً ورصداً للحياة اليومية. وشتّان بين الأمرين حتى وإن كانت كل شخصية من شخصيات «هليوبوليس» في انتظار غودو خاص بها. غودو في تجربة أحمد عبدالله الروائية الأولى لا يمثل الخالق او حتى الموت أو المستبد كما قد تحيلنا إليه المسرحية. غودو هنا شيء آخر: إنه الأمل بغد أفضل حتى وإن كانت الأحلام تصطدم بقسوة الواقع. باختصار إنها الحياة تلك التي يرسمها أحمد عبدالله في فيلمه الأول. الحياة بإحباطاتها وتخبطاتها... بعبثيتها وشقاوتها... بدورانها في حلقة مفرغة لا مفرّ منها. كل هذا من خلال حبكة بسيطة تدور حول مجموعة شخصيات، يبدو في الظاهر ان لا شيء يجمعها الا وجودها في حيّ مصر الجديدة، ولكن سرعان ما يبدو الرابط أعمق: إنه الهمّ المشترك وانكسار الأحلام تحت وطأة الحياة اليومية الضاغطة في القاهرة اليوم. همّ عرف عبدالله كيف ينقله الى المشاهد من خلال نقل عدوى ثقل ذاك اليوم على سيرورة شخصياته. فلا شيء يسير كما يرام والانتظار سيد الموقف. بدءاً من تعثر الشاب المسيحي «هاني» (هاني عادل) في إكمال أوراق الهجرة وبناء علاقة مع ابنة الجيران (يسرا اللوزي)، وصولاً الى رتابة يوم الشرطي (محمد بريقع) الواقف طوال النهار في كشك من دون ان يفعل شيئاً الا الاستماع الى الموسيقى القديمة وإطعام كلب متشرد، مروراً باصطدام الخطيبين الشابين (عاطف يوسف وآية سليمان) بكل ما من شأنه نسف بيت الأحلام، وغرق عاملة الفندق (حنان مطاوع) في الأحلام بعد إيهام اسرتها بأنها تعيش حياة رغيدة في باريس، من دون ان ننسى الآلام التي تمزق الشاب الجامعي (خالد ابو النجا) الذي يعدّ بحثاً عن الأقليات في مصر الجديدة بعد قصة حب خائبة... أبطال سلبيون نماذج للبطل السلبي رصدها عبدالله في «هليوبوليس» في محاولة للخروج عن السائد في السينما المصرية التي تصوّر غالباً البطل «سوبرمان» قادراً على فعل اي شيء. لكنّ البطولة هنا جماعية لا فردية، وهي بطولة للحياة نفسها... حياة كل واحد من شخصيات عبدالله التي قد تتقاطع وحيوات اخرى من دون ان تلتقي على رغم مرورها جنباً الى جنب غير دارية بأهمية اللقاء لو تمّ. إنها سينما الحياة، تلك التي ينتمي إليها فيلم أحمد عبدالله او «سينما الواقع»، كما يحلو للمخرج ان يقول في حديثه ل «الحياة» إبان العرض العربي الأول لفيلمه في مهرجان الشرق الاوسط السينمائي في ابو ظبي، مستنكراً وضع بعض الأقلام الصحافية سينماه تحت خانة السينما المستقلة. «فالسينما المستقلة اسم واسع جداً، وهي لا تطبق أساساً في مصر او في اي بلد عربي آخر، لأن لا وجود عندنا لسبع او ثماني شركات إنتاج تهيمن على السوق وتفرض مشيئتها. في بلادنا بإمكان أي شخص يملك مالاً ان يصنع فيلماً ويبيعه الى الفضائيات. من هنا فإن التعريف الأكاديمي للسينما المستقلة لا ينطبق على فيلمي». «هليوبوليس» الذي انسحب من المسابقة الرسمية في مهرجان تورنتو لاحتفاء هذا المهرجان بإسرائيل لم يكف عن الطوفان في المهرجانات السينمائية مثل فانكوفر وسالونيك وابو ظبي والقاهرة. ولن تقف جولاته هنا، إذ يشارك الأسبوع المقبل في مهرجان مراكش، قبل ان يحطّ في مهرجانات أخرى. فهل يكتفي عبدالله بالعروض المهرجانية، وهل تحقيق مثل هذه الأفلام مغامرة كونها لا تتمتع بمقاييس أفلام السوق؟ يجيب: «أساساً لم أرد لفيلمي ان يكون فيلم ترفيه. فهناك مخرجون آخرون يقدمون على هذا النوع من دون ان يقلل هذا الكلام من أهمية هذه النوعية. والدليل فيلم ايليا سليمان الرائع «الزمن المتبقي». ما أردته هو ان احقق فيلماً مختلفاً. وقررت ان اكتب سيناريو عن شخصيات لا تتطور خلافاً للبنية الأساسية الكلاسيكية للسيناريو. ففي ألف باء السيناريو لا بد ان تتصاعد الشخصيات. ولكن هذا لا يحصل في فيلمي. لأنني أردت ان يعكس المضمون حياتنا القاهرية حيث تتكرر الأيام نفسها من دون اي تتطور. بداية، كتبت السيناريو من دون ان أفكر في تحويله الى فيلم. إذ كان يهمني تفريغ شحنة عاطفية كانت في داخلي مرتبطة بأحداث شخصية بحتة. وبما انني لا اكتب روايات أو شعراً لجأت الى كتابة السيناريو. اما المغامرة بنظري فكانت عند فوز سيناريو الفيلم بجائزة ساويرس كأفضل سيناريو مع ان «الورق» لم يكن مكتملاً إذ كانت كل صفحة مؤلفة من خمسة مشاهد من أسطر قليلة. وسرعان ما تحمس المنتج شريف مندور والممثل خالد ابو النجا لإنتاج الفيلم، وبدأنا التصوير بأسلوب مفتوح أمام اي إضافة من الممثلين الذين ابتكر كل واحد منهم لغته الخاصة مع الوقت. علماً ان الجميع كان متعاوناً الى اقصى الحدود، وقام كل فرد من طاقم العمل بدوره على افضل ما يكون بشكل تطوعي ومن دون أجر». تحولات مسجلة ولكي يرصد عبدالله التحولات التي طرأت على مصر منذ ثورة يوليو حتى اليوم، استعان في فيلمه الروائي المصور بطريقة الديجتال بالسينما التسجيلية بنسبة 7 الى 8 في المئة من أحداث الفيلم، لإضفاء بعض الصدقية. كل هذا من خلال كاميرا خالد أبو النجا التي بعد ان تلتقي السيدة اليهودية التي تخفي ديانتها خوفاً من اي اضطهاد، تنزل الى الشارع وتسأل الناس عن بداية مرحلة الانهيار في شارع مصر الجديدة. «لا ادعي إعادة قراءة تاريخ مصر الحديث، ولكنني اطرح الأسئلة فحسب من دون ان يكون لديّ أجوبة عليها»، يقول عبدالله. «ذلك ان جزءاً كبيراً من حياتنا مترتب بشكل كلي او جزئي على أحداث ماضية ومسلمات نؤمن بها. فنحن مضطرون ان نعيش في ظل تاريخ مثقل بأعباء الماضي. ولا يمكن التحرر منه. وأنا لا أدين الثورة في فيلمي إنما أعطيت الكلمة للناس في الشارع الذين أجمعوا ان مرحلة الانهيار في حيّ مصر الجديدة بدأت مع خروج الأجانب من مصر وليس بعد الثورة». ولكن ألم تكن هذه الهجرة من تداعيات الثورة؟ يجيب: «من يريد أن يفسر الأمر هكذا، فليفعل. ولكن الثورة لم تأت لتطرد الأجانب من مصر، إنما المجتمع هو الذي تحوّل بعد وقت من الثورة الى طارد للثقافات المغايرة. وهذا جلّ ما يشغلني، لأن له علاقة بما يحصل في مصر اليوم. فبعدما تضاعف الشعور القومي في فترة من الفترات ورفض المجتمع الآخر المختلف، ترانا اليوم نفكر بطرد فئات اخرى من الناس. من هنا أرى انها مواضيع مترتبة فوق بعضها بعضاً، ولا علاقة لها بالثورة او بالحكومة. هي مسألة اجتماعية بحتة، لها علاقة بميول المجتمع ليكون أكثر محافظة. ولا أقصد بالسلوك المحافظ السلوك الإسلامي. فالسؤال هو: الى أي مدى سنتقبل الآخر ونستسيغ وجوده معنا؟». أفكار طرحها عبدالله خلال يوم واحد من حياة شخصياته، واستعان بإيقاع بطيء قال عبره كل شيء من دون ان يبدو انه يقول شيئاً. فماذا عما شعر به بعض الذين شاهدوا الفيلم من ان إيقاعه بطيء؟ «أكاديمياً إيقاع الفيلم ليس بطيئاً، لكنه يبدو كذلك»، يقول عبدالله، «فهو زاخر بالتقطيعات. لكن الشعور بالبطء يتأتى من كون الحياة التي يحكيها بطيئة الإيقاع لأن لا شيء يحدث فيها. فالجمهور اعتاد ان تشبع السينما رغبة ما عنده، لكنّ الحياة لا تشبع هذه الرغبة، وفيلمي يشبه الحياة».