صدرت أخيراً عن «مكتبة الأسرة» في القاهرة طبعة جديدة من كتاب «الخلافة الإسلامية» لمحمد سعيد العشماوي الذي أحدث ظهوره في نهاية ثمانينات القرن الماضي، جدلاً واسعاً. تناول العشماوي التاريخ الإسلامي بالدراسة النقدية، بهدف فهم الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية التي أحاطت بهذا التاريخ، وعدم الخلط بين الشريعة من ناحية، وبين الفقه والسياسة والتاريخ من ناحية أخرى، أي بين ما هو إلهي وما هو بشري يقبل الخطأ والصواب. ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام: يدور القسم الأول حول الأصول العامة للخلافة في التاريخ الإسلامي، وهو بحث في فلسفة التاريخ يهدف إلى تقويم نظام الخلافة وتحديد الفلسفة العامة التي يمكن استخلاصها منها عبر تاريخها. أما القسم الثاني، فيحوي رؤية متكاملة لتاريخ الخلافة، ويسبقها غوص في الظروف التي صاغت نشأتها وواكبت تخلقها. ويدرس علاقة الخلافة بما سبقها من نظم سياسية في الجزيرة العربية وما حولها. ثم يتعرض المؤلف في القسم الثالث، وهو أصغر أقسام الكتاب، لما يسمى ب «فقه الخلافة»، وهل يوجد بالفعل فقه للخلافة؟ ولم كان؟ وما هو؟ ثم يتعرض لدعوى هذا الفقه ويكشف عن جذوره السياسية التي استهدفت تقويض كل نظم الحكومات على اختلافها في الدول الإسلامية كافة: «لا بنظام أرقى وأسمى وأكثر تحديداً وشمولاً، ولكن بنظام الخلافة الإسلامية الفاسد المعيب بعد حجب كل نقد عنه ونزع كل مثلب منه». يؤكد العشماوي أن «الكتاب لا يشايع أي نظام ولا يمالئ أي حكومة، لكنه يرى ضرورة نشوء نظام إنساني جديد، تتحدد فيه إلتزامات الحكام والمحكومين، ويرى أن مرض فصام الشخصية هو داء السياسة الإسلامية، وهو مرض له أعراضه الثقافية والعقلية وآثاره الاجتماعية والنفسية العنيفة غير أنه يكون في السياسة أشد ظهوراً من غيرها: «حيث تجنح الأمم والجماعات المريضة إلى أن تنتخب من ماضيها بعض الأحداث وتغفل بعضها الآخر، وتقطع التاريخ فتقدم منه بعض الواقعات وتضرب النسيان على بعضها الآخر». ويعتقد العشماوي أن التاريخ الإسلامي لم يعد كلاً واحداً من منظور الذهنية العربية، لم يعد واضحاً ولا مترابط الفصول متداخل الأزمنة ومتكاملاً مفهوماً كما كان في واقعه وحقيقته. ويستدل على ذلك ب «الفتنة الكبرى» التي يسمع عنها المسلمون من دون أن يعرفوها بغير غموض، فلا يكاد يجزم أحد منهم بأسبابها الحقيقية، أو يقدر موقف كل من اشترك فيها تقديراً صحيحاً، أو يحكم على كل ما حدث فيها حكماً غير مشوب بهوى. ومن أعراض هذا الفصام السياسي أن «يذكر دائماً أن الخلافة الأموية خدمت الدين الإسلامي بالفتوحات المتصلة والغزوات المستمرة ونشر الإسلام في الأقطار، لكن لا يقال أنها هي نفسها هي التي دنست المدينة وأهدرت حرمة مكة وأباحت لجنودها دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، وضربت الكعبة بالمنجنيق مرتين فهدمتها في كل مرة، وسمحت لجنودها بدخول المسجد النبوي بالخيول واستخدامه مرابط لها». ويستدل الكاتب على الفصام الذي أصاب الأمة بمواقف من التاريخ الإسلامي، فالمسلمون يستدلون على عظمة الخليفة عمر بن عبدالعزيز ويرون أنه ألغى الجزية وقال أن محمد (صلى الله عليه وسلم) أرسل هادياً ولم يرسل جابياً، ولا يقال أن من فرض هذه الجزية غير الشرعية على المسلمين لم يكن حاكماً أجنبياً لكنهم خلفاء الأسرة الأموية أنفسهم». كما يستدل أيضاً على ذلك الفصام بموقف الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد، فيذكر المسلمون متفاخرين أنه «أنشأ بيت الحكمة ونشر الترجمة ودشن في عهده كل أساليب ومظاهر رقي حضارة رفيعة، لكن لا يقال أنه هو الذي أثار فتنة خلق القرآن وفرض بقوة السلطان وبالعنف والإيذاء على الناس اعتقاده ورأيه الخاص بمرسوم سلطاني». ولا يكتفي العشماوي بمساءلة التاريخ الإسلامي، فهذا التاريخ لا يزال يتحكم في حياتنا حتى اليوم، إذ إن نتيجة الفصام في هذا التاريخ أن «يصبح نشاطها – الأمم والجماعات – إما اندفاعياً عدوانياً متفجراً وإما نمطياً متحجراً. وتتميز أفعالها بالمفارقات والمناقضات وعدم ربط الحاضر بالماضي والمستقبل، وسوء ملاءمة التعبير السلوكي للموقف الخارجي، بحيث لا تقدر معنى المناسبة ومبدأ التناسب، فتهرب منها الفرص أو تجري وراء الفرص الضائعة وتتشدق بالأمجاد الغابرة». يعتقد البعض أنه لكي يتحقق العدل والأمن والرخاء، وتعود مجتمعاتنا إلى قوتها وبأسها وعصرها الذهبي، لا بد من الدعوة إلى عودة الخلافة. لكن المثير للدهشة أن أكثر من يدعون إلى الخلافة لا يعرفون كنه ما يدعون إليه، وتحجب عنهم الحالة الفصامية القائمة والشائعة حقائق التاريخ وحقيقة الخلافة، ويرى العشماوي أن ثلاث آليات للخلط الفكري أدت إلى زيادة هذه الأوهام المرتبطة بالخلافة، وهي: - الخلط بين الحكومة والخلافة. فالحكومة ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري مرتبطة بخلق نظام للجماعات والأفراد يمكنهم من العيش والتكاثر، وهي ضرورة قائمة في كل المجتمعات البشرية، وليس من الضرورة أن ترتبط بنظام محدد كالخلافة لكي تكون الحكومة ناجحة والحكومات مستقرة والرياسات منتظمة. - الخلط بين الحكومة المدنية والحكومة الدينية. وهي النظرة التي ترى في الخلافة نظاماً دينياً لا بد منه لتمام الاعتقاد أو لصحة الإيمان. والحقيقة أن نظام الحكم الديني لا يكون دينياً، لأنه يطبق مبادئ الشرع بل يكون كذلك، لأنه يضفي على الحاكم صفات تعتبر ما يفعله هو شرع الله، وما يقوله هو قول الله، أما نظام الحكم المدني، فيظل مدنيا حتى لو طبق قواعد شرعية أو أحكاماً دينية، طالما اعتبر التطبيق هو تطبيق الناس واجتهادهم البشري. - الخلط بين الدين والتاريخ. يرى البعض أن الخلافة الإسلامية تمازجت بالتاريخ الإسلامي، ما يوحد بينها وبين الإسلام، ويجعلها هي الإسلام. وهذا القول خطأ فادح. فالفكرة مهما كانت واضحة ومحددة تختلف عند التطبيق وتتعدد تفسيراتها، ولا يوجد تفسير واحد يستطيع أن يزعم أنه هو الفكرة بذاتها.