لطالما كان «التقدم» يشكل مشروعاً وهوية لقوى وأنظمة حكم سياسية ترى فيه حركة التاريخ السائرة إلى الأمام بغية تجاوز «التخلف» (أو التأخر بلغة ياسين الحافظ) الذي كان واقع العرب. إنه حركة باتجاه المستقبل تقف ضد آخرين يعيقون هذه الحركة ويشكلون مرتكزات التخلف والظلام. لكن المفهوم انحسر في العقود الثلاثة الأخيرة، ولم يكن انحساره خاصية عربية، إذ نستطيع التحدث عن تراجع عالمي له بعد تداعي معسكر الاشتراكية وخروجه من المسرح العالمي. عندنا، أي في المشرق العربي خصوصاً، سيغدو لهذا المفهوم، مع صنوه المقابل (التخلف)، مجالات جديدة بعد إزاحة جلّ المضامين التي سبق وأن احتفيا بها، والاقتصار على ذلك البعد الاجتماعي الثقافي فيهما، والذي كان في السابق يشكل أحد أبعاد اللوحة إلى جانب الأبعاد الأخرى (السياسية والاقتصادية). سابقاً، عبّر هذا البعد عن ذاته عبر ترصد سلوكات اجتماعية معينة يستطاع من خلالها الحكم على المجتمع بتخلفه وفواته، كالنظرة إلى المرأة والانتماءات الطائفية أو العشائرية وغيرها. باختصار، لقد كان مفهوم التقدم في السابق يقوم على تعارض قطبيّ مع الانتماءات دون الوطنية التي كانت محط نفور وتأفف عامين، وسمة يوسم بها من ألبسوا عباءة التخلف؛ والآن ثمة تحول يتمثل بالضبط في استيلاء هذه الانتماءات عليه وتسخيره في منازعاتها وتثبيت تمايزاتها. اللعبة الجديدة لمفهومي «التقدم» و «التخلف» هي توظيفهما في لعبة «الأكثرية والأقلية» بالدلالة الثقافية للكلمتين، وتحديداً في لعبة ترسيم الذات وهوية الآخر الديني أو الطائفي. وفق هذه اللعبة سيغدو هناك طوائف تقدمية بالماهية، أو على الأقل «أكثر تقدماً» وطوائف أخرى متخلفة. وهذا ظاهر في سورية في السنوات القليلة الماضية. نشير بداية الى أن من يقف وراء مثل هذه الانزياحات الجديدة لهذين المفهومين هو النخبة المنخرطة في الثقافة والشأن العام، أو هم أصحاب تعليم لا بأس به. بينما الإنسان العادي، فهو إذ لا يخلو من موقف ضدّي تجاه الغير، إلا أنه لا يهتم كثيراً بإلباس موقفه هذا بلباس يتباهى بالمفاهيم والتعالم. يتشكك المنظور التقدمي لمنحدرين من أصول أقلية بادعاء نخب أكثرية الدفاع عن الحريات وعن مظاهر التقدم الاجتماعي، ويرى أن ما وهبته الطبيعة لابن الأقليات لا يمكن للأكثري تحصيله إلا بالثقافة. فمثلاً في ما يخص علاقة الرجل بالمرأة، وهو ما يحضر غالباً للمقارنة بين تقدم أولئك وتخلف هؤلاء، وكدليل حي وملموس على القابلية عند الأقليات للحداثة والعصرنة؛ تبرز مثلاً حالة الاختلاط بين الجنسين في مجتمعات الأقلية، كما أن مشكلة الحجاب غير موجودة أو متنازع حولها إلا مع «الأكثرية»، والمرأة أكثر قدرة على الحركة والاختيار، وطبعاً هذه أمور موجودة «بالطبيعة» في «الاجتماع الأقلي»، إذ يفتح كل من الذكر والأنثى عينيهما على مثل هذا الوضع. في الوقت الذي لا يمكن تحصيل مثل هذه الأمور عند بعض أفراد «الأكثرية» إلا بعد القيام بجهد، أي بالثقافة. وهؤلاء الأخيرون، غالباً، معرضون للنكوص إلى تخلفهم وانغلاقهم، أي إلى «طبيعتهم»، وشتان بالطبع بين الطبيعتين!. يتفاخر هذا الفهم بالحداثة والعصرنة، التي تبدو في هذه الحال، عبارة عن بعض القشور والمظاهر التي تخفي ما يناقض الحداثة، أي توكيد الهوية الفئوية. فهذا الفهم على سبيل المثال عندما ينتقد النموذج السائد للذكر، يفعل ذلك وهو يضع نصب عينيه نموذجاً محدداً، «الذكر الأكثري» المنمط والمفترض (نموذج «سي السيد»)؛ في الوقت الذي لا تختلف الذكورة الاجتماعية بين مكان وآخر، أو شخص وآخر إلا بالدرجة التي لا تلغي كونها تحمل العناوين والمضامين نفسها، أعني تفوق الذكر وهيمنته. بمعنى آخر، لا يخلو هذا النقد الذي يحب ويفضل أن يستند إلى أرض «تقدمية - علمانية ديموقراطية»، من فاعلية طائفية؛ وهو ما نجد عليه بعض الأمثلة في بعض السجالات التي حصلت مع مشروع قانون الأحوال الشخصية في الصيف الماضي. التقدمية «الأكثرية» من نوع آخر. فهي على الغالب متشككة تجاه الأصوات التي تخرج من بعض النخب المنحدرة من «الأقليات» منادية بالحريات والديموقراطية، فعند المحك الكبير يعود هذا الأقلوي إلى هواجسه ومخاوفه غير المبررة على هويته، رغم كل التطمينات، لينتهي غالباً، في شكل مباشر أو غير مباشر، في حضن الاستبداد. فتقدمية «الأكثرية»، تكمن من وجهة نظر أهلها، من حيث أنها جماعة غير قلقة على كيانها ووجودها، وهي القادرة بالتالي على حمل أعباء الحريات ومناهضة الاستبداد، على عكس الأقليات التي تشكل أحد حصونه. ينطلق هذا الفهم الأخير من نقطة تستبطن تعريف الأمة بالأكثرية الدينية أو المذهبية، ومن هنا فلا بد من أن تكون الأكثرية تلك ديموقراطية. فإذا كانت الديموقراطية تعني حكم الأكثرية فهي تحيل إليهم بالطبع، فالدولة والحكم لا بد من أن يكونا متطابقين مع «الأمة» لا ضدهما. ثمة كم ضخم من الاستبداد في مثل هذا التصور الذي لا يقصي الأقليات من الأمة وحسب، بل وأيضاً قطاعات لا بأس بها تنحدر بدورها من أصول أكثرية، من خلال افتراض وجود أكثرية ناجزة ومنسجمة ومتصالحة مع ذاتها. التعفف عن الطائفية هو ما يزعمه كلا الفريقين، فما يذهبان إليه مرجعه الواقع كما يزعمون أيضاً، ومن أراد فلينظر إليه!. وفي الواقع ثمة عفة، ولكنها عفة عن النقد والنظر إلى الذات، بل العمل على تسويرها وتحصينها، في شكل مراوغ أقرب إلى الفهلوة التي يوفرها لهم انتماؤهم إلى عقائد وخيارات «تقدمية». * كاتب سوري.