لعل من أبرز نتائج الخطة التطويرية لقناة «الجزيرة» وملامح حلتها الجديدة، إيقاف برنامج «أكثر من رأي» الذي لطالما عرف بطابعه الأحادي، البعيد كل البعد من عنوانه الذي كان يفترض به أن يكون ساحة لتبادل الآراء وتلاقحها عبر اختلافها وتلاقيها. فالبرنامج كان منذ أعوام ينتظر رصاصة الرحمة هذه التي أطلقتها «الجزيرة» أخيراً، في إطار سعيها الى اعتماد برامج أكثر عمقاً ومعرفية وجدوى من الجعجعات الحوارية الشعبوية التي تعمل عادة على تسطيح عقل المشاهد وتسفيه القضايا المعقدة التي تقلق المجتمعات العربية وتكبح حركة تطورها وارتقائها أسوة بالمجتمعات البشرية الحيوية والتي هي في حاجة إلى من يفككها ويجترح حلولاً عقلانية وعلمية لها، وليس إلى قولبتها الشعاراتية. من هنا تبدو خطوة إيقاف «اكثر من رأي» خطوة تشي بحدوث تغيير ملموس في البنية الذهنية المعرفية الواضعة لاستراتيجية المحطة والمهندسة لبرامجها وتوجهاتها التي يقتضي الإنصاف الإقرار بكونها تؤثر في وعي ملايين المشاهدين العرب بل وتؤطره أحياناً. واللافت أن احد أبرز البرامج الجديدة على شاشة «الجزيرة» هو برنامج «في العمق» الذي يبدو وكأنه حل بديل من «أكثر من رأي». والواضح أن عنوان البرنامج يكشف عن كنهه وطريقته الحوارية الاستقرائية والتحليلية الناضجة بخاصة ان مقدمه هو المذيع السعودي المتألق في القناة القطرية علي الظفيري الذي يمتاز بشخصية إعلامية مرنة ورصينة ستترك بصماتها على تقديمه للبرنامج وإدارته دفة الحوار، نحو سبر القضايا المطروحة على طاولة البحث بعمق وروية وشمولية في الطرح. وبالعودة إلى «أكثر من رأي» الذي نتناوله هنا كنموذج لمنهجية سائدة في برامج «حوار الطرشان» على الشاشات العربية يمكن القول انه مثّل إلى حد كبير نسخة عن برنامج «الاتجاه المعاكس» الشهير. فالأخير على رغم كل الحملات المشككة في ديمومته يشكل بالفعل مدرسة لعدد لا يحصى من البرامج الحوارية العربية في مختلف الشاشات. وعلى رغم طابعه التناظري الحاد والساخن إلا أن فكرته القائمة على تحاور ضيفين نقيضين متقابلين وجهاً لوجه، تجعله جذاباً ومستساغاً، ومحطاً لتفاعل المشاهد معه إذ ترتكز طبيعة البرنامج وفلسفته إلى هذا التضاد الحدّي بين فكرتين وموقفين، فضلاً عن الكاريزما التي يتمتع بها مقدمه فيصل القاسم لدى قطاعات واسعة من المشاهدين. فهو نجح في فرض «الاتجاه المعاكس» كبرنامج نخبوي وشعبي في آن واحد، وفق طريقته السهلة الممتنعة في تناول موضوعات برنامجه وطرحها. وهذا لا ينفي بالطبع وجود أكثر من ملاحظة نقدية على البرنامج، لكنها تبقى استثناءات تؤكد قاعدة نجاحه وطزاجته على رغم مرور قرابة عقد ونيف على انطلاقته. وقد تكفي الإشارة هنا إلى تعليقات القاسم ومداخلاته التي هي جزء لا يتجزأ من نجاح البرنامج وديناميته المتجددة. وللمشاهد تخيّل «الاتجاه المعاكس» من دون حراك وتدخل وتسخين من القاسم. لا شك سيبدو البرنامج حينها بلا لون ولا طعم ولا رائحة، الأمر الذي لا يمكن تقبّله في برنامج حواري جماعي مثل «أكثر من رأي» يفترض فيه أن يكون أكثر عمقاً وسلاسة وتنظيماً بما يتيح لمختلف وجهات النظر أن تطرح وتشبع نقاشاً وجدلاً. من هنا يبدو إيقاف «أكثر من رأي» خطوة ذكية وموفقة من «الجزيرة» في طريق التوجه نحو برامج حوارية أكثر حيوية ومتعة وإفادة وتفاعلية بين المذيع وضيوفه والمشاهدين تالياً. وغني عن البيان أن مقدمي بعض البرامج الحوارية المتخشبة تحولوا إلى «ديكتاتوريين» في الاستوديوات يمارسون سلطتهم المطلقة في قمع الضيوف ومقاطعتهم وابتسار أفكارهم وتحويرها وبترها كما هو ملاحظ على «الجزيرة» وغيرها من قنوات. وعموماً فهذا النمط الانفعالي المتشنج والعالي النبرة لبرامج الحوار العربية ربما كان مقبولاً في بداية ظهور الفضائيات الإخبارية وانتشارها في العالم العربي منتصف تسعينات القرن العشرين، لكنه حتماً مع تطور وعي المشاهد وتراكم تجربته وتوسع خياراته وآفاقه التلفزيونية لم يعد كذلك. فالمشاهد ليس مضطراً الى متابعة برامج مستهلكة ومكرورة تعيد إنتاج نفسها وضيوفها وموضوعاتها بشكل بليد ومنفر مرة بعد مرة الأمر الذي يبدو أن «الجزيرة» قررت ولو متأخرة بعض الشيء ملاحظته. هي إذاً خطوة في الاتجاه الصحيح من جانب «الجزيرة» نحو تكريس برامج حوار متجددة ومثمرة وجذابة، تفرز ثقافة حوارية ونقاشية أكثر هدوءاً ومرونة. كل هذا بعيداً من آفات مركبة ومستعصية في عالمنا العربي والعالم الثالث، تدفع إلى الصراخ والعويل وندب الحظ. ولا شك في ان معالجتها وتعقلها يقتضيان بكل تأكيد ما هو أعمق من ردود فعل عاطفية ومتشنجة وصولاً إلى إعمال العقل بغية التوصل إلى حلول ومقاربات جدية وجذرية لها... على الأقل في هذه الفسحة التلفزيونية الفضائية التي توفر ولو هامشاً ضيقاً أمامنا نخباً وشعوباً للقطع مع السرديات والروايات الرسمية والسلطوية المزيفة للوعي والواقع والذاكرة والفكاك من إسارها المحكم.