والحديث لا يزال عن قبيلة الاقتصاديين. وتم الحديث في الأسبوع الماضي عن الانتقادات الموجّهة إلى نفرٍ ممن فازوا بجائزة نوبل، وأهم النقاد ولأسباب مختلفة، اثنان ممن فازوا بها (غونار مايردل وفريدريك فون هايك)، وآخر من غير الفائزين بها، وهو أستاذ علم الإحصاء الرياضي الدكتور نسيم طالب والأستاذ الدكتور طالب من أصل لبناني، ولا يزال يتحدث الإنكليزية بلكنة لبنانية واضحة. وقد احتل مكانة خاصة في الفترة الأخيرة بين رجال الأعمال، لأنه كان من أهم من أنذروا وحذروا، بل وتنبأوا بحدوث «الكارثة المالية الضخمة» التي اجتاحت دول المعمورة عام 2008 قبل حدوثها فعلاً بثلاث سنوات. وكان الناس يتزاحمون لحضور محاضراته في مؤتمر دافوس الأخير. وقد حضر محاضراته في دافوس أمثال بيل غيتس ومايكل دل. وجوهر انتقادات الدكتور طالب أنه يتعذر التحوط بما يكفي ضد الإفراط بالمخاطر المالية وفقاً لنظريات الاقتصاديين الماليين وأساتذة المالية في كليات إدارة الأعمال على مستوى الدراسات العليا، وبخاصة رموزهم الذين فازوا بجائزة نوبل في علم الاقتصاد كالثلاثة الذين اقتسموها عام 1990 وهم: هاري ماركوتش ومرتون ميلر ووليام شارب. وقد يكون أكثرهم ضرراً لسمعة الاقتصاد شارب الذي تستخدم إحدى معادلاته في التحليل الفني، وكانت من الأسس التي بنيت عليها سيئة الذكر «المشتقات». وبعبارة أخرى، يقول الدكتور طالب إنه يتعذر التنبؤ بكل ما هو نادر الحدوث، مع أنه تترتب على كل شيء يندر حدوثه أشياء أخرى كثيرة مهمة. لذلك، فهو يقول ما معناه إن كل التحليلات الرياضية المعقدة التي أدى إلى انتشارها هذا العدد القليل من مبرمجي «النماذج الرياضية لتعاملات أسواق المال» من الاقتصاديين الماليين تعتمد على ما حدث في الماضي، غير أن من السذاجة الظن أنه يمكن معرفة المستقبل بناءً على ما حدث في الماضي. وقد منحت جائزة نوبل لعلم الاقتصاد عام 1996 لإدموند فيلبس، ليس لأنه أتى بعلاقة تحمل اسمه تنص على التناسب العكسي بين نسبة التضخم ونسبة البطالة، أي إذا زادت نسبة التضخم تناقصت نسبة البطالة، وهو قول سبق بناؤه على علاقة إحصائية كانت صحيحة لفترة معينة، ثم فقدت صدقيتها منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي حين كانت أميركا، أي أكبر اقتصاد في العالم، قد عانت تضخماً عالياً رافقته نسبة عالية من البطالة. والبروفسور فيلبس أول من يعترف بأن تلك النظرية التي عُرفت باسمه خاطئة. ولكنه أتى بإضافة حقيقية عن أهمية «التوقعات» في ما يتعلق بنسب التضخم في المستقبل، إذ تم رفع مستوى السيولة المتداولة لخفض مستوى البطالة. والمقصود أن الناس الذين يهمهم الأمر تعلموا من تجارب سابقة أن ارتفاع مستوى السيولة في الوقت الراهن لمقاومة البطالة سيؤدي في المستقبل إلى ارتفاع نسبة التضخم، أي «يتوقعونها» ووفقاً لذلك يتصرفون. ولا يشك أحد من غالبية الاقتصاديين بأن البروفسور فيلبس استحق الجائزة على رغم اعترافه هو قبل غيره بأن ما يعرف ب «منحنى فيلبس» يوحي بوجود علاقة ثابتة لعلاقة عابرة، لذلك فهو خطأ في خطأ. وكان البروفسور طالب قد كتب كتاباً مهماً تحت عنوان «الوزة السوداء» احتل أوائل قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. وجوهر الكتاب أن البشر مهما وصلت مستويات معارفهم في علم الرياضيات، يبقون عاجزين عن التنبؤ بكل ما هو نادر الحدوث، مع أهمية ما يندر حدوثه في حياتهم حينما يحدث. والمقصود ب «الوزة السوداء» أن الناس ومنذ الأزل ما كانوا يظنون أن الله خلق وزاً باللون الأسود حتى تم اكتشاف أستراليا، فرأى الناس الوز الأسود للمرة الأولى في تاريخ البشرية. والله من وراء القصد.