عندما كنّا صغاراً - وحتى وقت قريب - ربما لم نستنكر على أنفسنا سؤال عنوان المقال: لماذا تتأثر الأسرة السعودية بما يجري في العالم أكثر من غيرها؟! تعود بي ذاكرتي – معتقدة أنه قد يشاركني كثيرون – إلى أحداث متفرقة مضت، شهدنا فيها كيف كان يتفاعل بعض أفراد مجتمعنا مع الأحداث الخارجية، ما كان منها بسيطاً لا يدعو لاسترعاء كل ذلك الاهتمام، أو ما كان أكثرها جدلاً حتى بلغ بهم المصاب حلقوم نفاد صبر الانتظار بما ستوافيهم به وسائل الإعلام وهيئات الإغاثة الدولية إبان حرب إحدى دول الجوار، فهبّ الناس يتناقلون مفتاح الاتصال الدولي آخذاً كل فرد «في الضرب» بصورة عشوائية على أزرار الهاتف، لعل ضربة حظه تربطه برقم هاتف إحدى الأسر لمواساتها وسؤالها عن الأوضاع في الميدان، وما قد تحتاجه من دعم مادي أو معنوي! أنا هنا لست ضد ذلك التصرف الإنساني النبيل، لكن ألاّ أجد بعضاً من بين أولئك ممن هبّوا تدفعهم مشاعرهم على اختلافها وتنوعها ونحن نعيش أحداث «جازان»، وكأنّ لسان الحال يصف بعضهم «ليس من شأننا في شيء»!... هذه المفارقة تسوغ مشروعية إعادة صياغة سؤال عنوان المقال: لماذا لا تتأثر الأسرة السعودية بما يجري في الداخل أقل من غيرها؟ عنوان المقال أو سؤاله كان أحد مباحث ورقة بحثية قدمتها في ندوة عن دور الأسرة في تعزيز الأمن. أستحضر جيداً الدهشة الكبيرة والاستنكار الرافض اللذين ارتسما على معظم وجوه جمهور الندوة المفتوحة من النساء من أكاديميات وطالبات ونساء من عموم المجتمع، وأذكر تماماً اللحظة التي حسمت تطور المناقشات الهادئة من منظور الجدل الفكري الذي احتدم بين رافضة ومتفقة مع السؤال: لماذا تتأثر الأسرة السعودية بما يجري في العالم أكثر من غيرها؟! حين طرحت إحداهنّ سؤالاً تطلب فيه مقارنة رد الفعل المجتمعية ومدى تفاعلها بين مشهد مقتل الطفل «محمد الدرّة» والطفلة المواطنة «وجدان الكندري» مع فارق ماهيّة الجانيين! الإجابة عن هذين السؤالين تنطلق من مقتضيات وضرورات عدة تعود إلى ما خلف تباين شعور الوحدة الاجتماعية الوطنية، ما يرجح فرضية أن سبب تأثر الأسرة السعودية بما يجري في العالم أكثر من غيرها، أو سبب عدم تأثرها بالداخل أقل من غيرها هما وجهان لعملة جواب واحدة: ذلك عائد لطبيعة الشعور بالانتماء المجتمعي العام وأولوياته. القول بأولويات الانتماء الاجتماعي يستدعي ضرورة فك الالتباس بين مفاهيم الوطن والأمة والقومية والإسلامية، كما لو كانت متعارضة أو متناقضة، أو بمعنى آخر، إن أولوية الولاء للوطن لا تتعارض أو تتناقض بأي شكل من الأشكال مع ديننا الإسلامي الحنيف، ولا مقتضيات الشريعة الإسلامية. التجارب القُطْرية نجحت في تحديث مجتمعاتها من نهضة تعليمية وفكرية وعمرانية، وذلك إنما تحقق قبل ظهور موجات «الأيديولوجيات الوحدوية، والانشغال بالمعارك والقضايا القومية والدينية الكبرى»، فلو استرجعنا كل الوحدات الوطنية «سواء أكانت طبيعية من إرث التاريخ، أو مصطنعة من فعل الاستعمار»، لوجدنا أنها مثّلت المجال الحياتي الوحيد الذي عاشه الفرد العربي والمسلم، وربّى فيه أولاده وتفاعل من خلاله مع جيرانه ومع العالم، وهو المجال الذي تعلّم فيه قيم الوطنية والولاء والعمل والإنتاج. الفهم الدقيق لعملية الأولويات وتكاملها من دون تعارض بينها ولا تناقض يوصلنا لقناعة مؤداها أن التأثير الفعلي والواقعي لصياغة المستقبل العربي والإسلامي إنما مناطه وبؤرته ساحة الوطن، الوطن «الدولة» في حدوده السياسية، أما إغفال ذلك الأمر بدعوى الانشغال بالمعارك والقضايا القومية والدينية عن بُعد، «فقد أثبتت التجارب التاريخية أنه لا يصب في صالح هذه القضايا، بل إنه قد ترك بعض الأوطان والدول وشؤونها مهملة أو أدى إلى تمزقها وتفتتها» . تساؤلا المقال لا يعنيان – إطلاقاً - التشكيك في وطنية أي فرد مواطن أعود معه إلى تراب هذا الوطن، ولكن الحياة على نبض الوطن تحتاج منّا إلى وقفة ومراجعة! وكل عام وعيدكم وطن، كل عام وأنتم نبضه. * باحثة سعودية في الشؤون الأمنية والفكرية [email protected]