نحن محسودون على هذه الأرض، محسودون على التراب والسحاب والضباب، على الرجال والنساء، على الصحراء والجبل والقرية والمدينة، محسودون حتى على ذرة أكسجين نلتقي بها صباح مساء ليس لها مثيل، وإن أغرانا الصيف والشتاء ببوابات السفر فهو إغراء لن يدوم طويلاً، واسألوا العقل الباطن، وصوت الضمير حين نعود بالحقائب والدفتر الأخضر، حاولت أن أخرج في الأسبوعين الأخيرين من ساحة المعركة فلم أستطع حتى وإن ذهبت بعيداً أن أعود سريعاً، فمشاهد الرجال الأشداء، والتحام الوطن ووحدة الجسد المتباعد المترابط في ركنه الجنوبي تعيدني وتغري أكثر بالكتابة والاسترسال في العزف على أغنية الوطن، وإيقاف كل الأفكار لحالة الحماسة التي تتلبس المواطن البسيط وهو يشاهد اللباس العسكري والحزام الذي يربط المنتصف والرؤوس التي لا تخاف الموت، أصبحت أردد لا شعورياً - وأنا الذي انتقلت بين خمس مدن محلية في ظرف الأيام الماضية - النشيد الوطني بوصفه أكثر ما يملأ الصدر سروراً، ويطربني حد الانتقال إلى «جازان» بالفكر والروح والقلم والورقة. مشاعرنا ثابتة لم تتغير ولكنها تتضاعف إلى حدود الرغبة في الشهادة، والصوت على امتداد الوطن واحد مترابط، الكل يسأل ويبحث ويدعو، فبوصلة قلب إنسان هذا البلد - لدواعي الأمة - تشير إلى الجنوب، وملامح الترابط تحضر حتى وإن مس التراب «شوكة»، فمن هنا تسير قافلة «حب الوطن» بالمساعدات السريعة إلى النازحين على الشريط الحدودي، ومن هناك تفتح مؤسسة خيرية ذراعيها وتطلق نشاطها الإغاثة لرعاية أسر الشهداء والجرحى والنازحين، ومن هنا يقف الشباب لتوزيع القبل والوقوف فخراً وإعجاباً بكل الجنود البواسل، وهنا شباب يؤجل فرحة العمر المنتظرة لحدث طارئ ويُقَدِم التفاعل الفطري على فرحة، وهنا وهناك حملة تبرع بالدم، وبيت مفتوح لكل نازح، ومدير تعليم يعقد اجتماعاً طارئاً لضرورة متابعة سير الطلاب الذين غادر آباؤهم إلى الواجهة والمواجهة، ودعوات لا تنقطع ومتابعة لأدق التفاصيل، ورغبة عارمة للبعيدين أن يكونوا قريبين من الشهادة أو الجبهة، كلٌّ بما يستطيع وإن عجز بعضهم عن المساهمة فاكتفى بالمشاركة بالدموع؛ فهي أبلغ تعبير وأصدق إحساس، نحن يد واحدة وإن حدث اختلاف عابر على رؤية اجتماعية أو وجهة ثقافية وتباين في وجهات النظر والرؤى والأطروحات، فلا يعدو أن يكون «فاكهة فصلية»، ولن يفسد للود قضية، ولا يمنع أن نستمر كالبنيان المرصوص يداً واحدة يشد بعضنا بعضاً لخط الأمام. يضبط «أفراد الوطن» عقارب مشاعرهم على نبض «جازان» وينتظرون جميعاً الخبر المفرح من أفواه الأهل هناك «مدنيين وعسكريين»، فنتبسم معهم حين يبتسمون، ونجرح إن جُرِحَ جسد واحد هناك لأنه الوطن، فإن نادت الدمام «شرقاً» أختها جدة، صاحت عسير: أنا هنا «مستعدة»، وإن شكت تبوك في الشمال، نهضت جازان بالتمام والكمال وتأهبت القصيم والحجاز، ولو غضبت عروسنا وعروس نجد «الرياض» اتجهنا إلى «مكة». وطن هذه أفعاله وتفاعلاته: أب يتمنى أن يكون سابقاً ابنه من أجل الأرض، وأم ترفع يديها الحنونتين للسماء طمعاً في أن تكون «أماً لشهيد»، وجسدنا المتماسك الموزع - بعشق الجغرافيا وقوة التاريخ - يشارك ويطمئن ويدعو ويتوثب، جزء منا جسده على الحدود، والجزء المتبقي يريد أن يعمل أي شيء ليقنع نفسه أنه يستحق العيش في وطن يحميه، البعيد مشارك في كل شيء إلا الجسد، والقريب مرابط مجاهد مضحٍ بالجسد. تذكروا أن جسد البعيد لم ينطلق، إنه لا يزال متوثباً ينتظر الإشارة في سبيل وطن الأرض/ أرض الوطن! [email protected]