المهنية أمر مطلوب في كل عمل، وتزداد أهميتها عندما يتعلق الأمر بالجمهور، ولا أظن أنه يوجد عمل له صلة بهذا المفهوم أكثر من العمل الإعلامي الذي يعتبر الجمهور هو عماده وأساسه، في الإعلام الغربي - الذي قطع شوطاً هائلاً في المهنية الاعلامية مهما اختلفنا حوله - يدرك الصحافي عموماً والكاتب خصوصاً أن رضا المتلقي هو الذي يحدد مسيرته ويقيس قدراته صعوداً وهبوطاً، ولذا يحرص على إرضاء ذائقته ويهتم برد فعله من أجل ضمان نجاحه واستمراره، أذكر أن الكاتب الأميركي الشهير «روبرت نوفاك» قال يوماً: «إنه لا يشعر بالراحة والهدوء إلا بعد أن يطلع على رد فعل القراء حيال ما يكتب»، ومثله «بات بوكانن» الذي شبه الكتابة الصحافية بالمخاض الصعب، وأشار إلى أن المولود في هذه الحالة قد يكون سليماً، وقد يكون مشوهاً ،وقد يكون أي شيء بين هاتين الحالتين، والقارئ - بالطبع - هو الذي يشرف على هذه الولادة ويعطي النتيجة النهائية، أنا هنا لا أطالب كتّابنا الأعزاء بأن يحذوا حذو قامات شامخة تكتب في أرقى الصحف العالمية، وإنما أطالب بالحد الأدنى من احترام القارئ الذي يدرك الجميع أنه هو الأساس الذي يقوم عليه العمل الكتابي، إذ يخطئ من يعتقد أن رئيس التحرير أو المسؤول الحكومي هو المُعنَى بما يكتب، فلولا القارئ لما وجدت الصحيفة أصلاً، كما يخطئ من يعتقد أن زاويته الصحافية ملكٌ له، إذ هي ملك للقارئ الذي لا تليق الاستهانة به وبقدراته ومهاراته في فرز الغث من المفيد. أقول هذا بعد أن تكرم احد المتابعين لما اكتب وأرسل لي بعض ما كتب في تلك المقالات وتبين لي، بعد تمحيص شديد، أنه يمكن أن يصنف تحت باب «المهاترات» التي تقال في المجالس الخاصة لا في زوايا صحافية لكّتاب ينتظر منهم القارئ الكثير، إنني اعتقد جازماً أن المهنية تقتضي عدم قبول أي دعوة من أي قطاع – حكومي أو خاص - إلا إذا كانت الجهة الإعلامية التي يتبع لها الكاتب هي التي ستتكفل بما يترتب على ذلك من مصروفات مالية وخلافها، وهو العرف السائد والمتبع في كل بقاع الأرض، ولكن ما دام هؤلاء الكّتاب قبلوا الدعوة، أوَلم يكن من الأولى ألا يتباهوا في ذلك من خلال زوايا صحافية هي ملك للقارئ أصلاً؟ إنه من المحزن أن يتباهى من يزعم أنه يتبنى قضايا المواطن بأنه زار البلد الفلاني، ويتجاوز كل الأعراف المهنية عندما يتحدث عما جرى بينه وبين صديقه فلان، إذ ماذا يهم القارئ حينما تخبره أنك سافرت بمعية أصدقائك، وأنكم نلتم حظوة لم ينلها غيركم، وقضيتم أسعد الأوقات وأجملها في أماكن لا يحلم هذا القارئ المغلوب على أمره الا ان يراها في الخريطة؟ فأنتم أول من يدرك أن ما يهمه هو المعلومة الصادقة التي يستفيد منها، أو طرح قضية تشغل باله، وتسهم في حل ما يؤرقه، أو إيصال صوته إلى مسؤول لا يستطيع الوصول إليه، كنت سألتمس العذر لو أنها كانت السقطة الأولى، ولكن التاريخ يقول غير ذلك، فقد استمر بعض الكتاب في استغلال ثقة القارئ وتسامح المسؤول لتحويل ملكية الزاوية الصحافية من القارئ إلى الكاتب نفسه، لتكون منبراً خاصاً يبث من خلاله ما يحقق مصالحه الذاتية الضيقة مع تمرير ما يكفي لذر الرماد في العيون! وختاماً أقول لأعزائي الكتّاب إياكم والإفراط في ثقة القارئ بكم، فهو أذكى وأكثر إدراكاً مما تتصورون، ومثلما أنه صنعكم فإنه قادر على إنهاء وجودكم. [email protected]