في القرن التاسع عشر ظهر ما يسمى «بالتشويش» واقترن بأجهزة غير متطورة آنذاك ولحق به التشويش على المذياع وما يماثله من الأجهزة الأخرى حتى وصلت التقنية إلى التشويش على محطات التلفزة المبثوثة عبر الأقمار الاصطناعية. وقيل: «إن التشويش هو العنصر الذي يدخل على العملية الاتصالية فيغير من المعنى المراد إيصاله بدرجات متفاوتة وينقسم إلى التشويش المادي والنفسي والتشويش الدلالي، والتشويش التكنولوجي أو الميكانيكي الذي يؤدي إلى حجب الشيء ومنع وصول صورته وصفاته إلى المتلقي المقصود بالرسالة». ولصعوبة ملاحقة أجهزة التشويش في وقتنا الحاضر، نظراً للكم الهائل من المحطات المرئية أو المسموعة، لأن الأجواء أصبحت ملبدةً بغيوم البث ومحطات التفلزة لم يعد بالإمكان الحجب أو التأثير، لذلك تم اللجوء إلى التشويش المضاد وهو إنشاء أكبر قدر ممكن من المحطات الموالية، وأصبح التشويش بالمنافسة على الجذب والإثارة، ونشر الثقافات والترويج للمواقف، وبدأت حركة تعريب المحطات، فهذه محطات غربية وتلك روسية وأخرى صينية و... و... و...! وتعددت طرق وأساليب التشويش الماضية والحالية، ولها أهدافها ودوافعها، ولست هنا بصدد بحثها أو الحديث عنها، وما أقصده وأهدف إليه هو الإنسان وبتحديد أدق «الموظفون المُشوَشُون»، والتعرف عليهم وعلى شخصيتهم لا تحتاج إلى عبقرية أو بصيرة نافذة، ولا تحتاج إلى «استشاري» - وما أكثرهم في حياتنا العملية - ليحدد لنا من هم «المُشَوشُون «وغير المشوشين». العلامات واضحة، فعندما ترى موظفاً بدأ مرحلة عدم الانضباط في عمله، فاقداً للتركيز فقد دخل إلى نطاق تأثير التشويش، وعندما تلحظه ينظر إلى ساعته باستمرار وأذنه مشغولة بمكالمة هاتف محمول ويُسلّم بنظرة من عينيه، ويبحث في جيبه عن شيء فقده فهو بحاجة إلى جلسة في غرفة طبية مجهزة بأجهزة امتصاص ذبذبات التشويش من حواسه الخمس لإعادته إلى وضعه الطبيعي! وعندما تزور موظفاً في مكتبه، وتشاهد بعثرة الأوراق، واختلال أوقات المواعيد، وسماعة الهاتف لا تتوقف، والهاتف المحمول ينادي بنغمات الاتصالات والرسائل، حديثك معه مقطع الأوصال وبعد كل مكالمة يردد عليك «كيف الحال»، وينقلك من موضوع إلى موضوع، ويضيع معه هدف اللقاء الذي يأتي من صميم العمل، إذا رأيت مثل هذا فَبَلغّ عنه هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات لأنه أصبح برجاً من أبراج التشويش! وإذا قدر لك وذهبت بصحبة موظف يوصلك إلى المنزل في سيارته ورأيت ملابس على المقعد الخلفي، وعلب مشروبات غازية، وأوراق على «طبلون» السيارة، وبرميل الغاز وحوله بعض الأواني وشيء من الحطب مركونة في زاوية سيارة الجيب الخلفية، وعندما تسأله بديبلوماسية عن عشقه للبر والكشتة يبادرك بضحكة تملأ وجهه المرهق بمعاناة كثرة المواعيد، آه أنا ما أرتاح إلا في البر «ولولا» العمل والعيال ماجيت؟! عندما ترى مثل هذا تيقن تماماً أن القلق والتشويش يزحفان زحفاً على البر الهادئ، ولو بحثت في أيام كشتة هذا المُشوَّش لاكتشفت العجب العجاب!! فبدلاً من أن تُضفي هذه الرحلة البرية مزيداً من الراحة والتخلص من ضغوط العمل وأعباء الحياة اليومية لإعادة الحيوية والنشاط، تجد أن رحلة المُشَوْش البرية زادت من أرقه وتعبه وقلقه نتيجة للسهر وحمى الاتصالات التي لا تنقطع، فهذا صديق أضاع الطريق وذهب للبحث عنه، وآخر خانه إطار سيارته الذي غرق في كثبان رملية فأمضى ساعات في الشد والجذب، والمسؤول عن المؤنة يكتشف جيشاً من النمل على سكر شاي الصباح، ويشكو نسيان ملح طعام الغداء، وأن الخبز لا يكفي لعشاء المساء؟! وبلغ به التشويش مبْلَغَهُ حين اكتشف يوم وصوله للمُخَيّم في أحد الأسابيع أنه «يوم ثلثاء» وليس «أربعاء» وهو الموعد الأسبوعي للقاء الأصدقاء زملاء المهنة والدراسة، مما اضطره إلى طلب إجازة من رئيسه عبر رسالة «قصيرة» مهذبة المفردات جياشة العواطف، وكان مسروراً بالرد الإيجابي من رئيسه، وعاش ليلةً مرعبةً بصوت عواء الذئب، وعندما قص على أصحابه في اليوم التالي قصة ليلته المُشَوشَة أطلقوا عليه «مخاوي الذيب»، وفي منتصف تلك الليلة وأصحابه شهود عدول سمعوا صوت نباح كلب ولم يسمعوا عواء ذئب، وتعالت الضحكات والتعليقات، وذبحوا في الصباح كبشاً وغيّروا لقب صاحبهم إلى «مخاوي الكلب»!! استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وبدلاً من تطوير ثقافة ومهارات التخصص العالي الذي يحمله والانتباه لواجبات وقيم وأخلاقيات المهنة، تَدَرْوَش صاحبنا، وزاد وزنه وترهلت معنوياته، وغَيّب جنوحه نحو لقب «كبير المهندسين» وأصبح مجبراً طوعاً على القبول بلقب «مخاوي الكلب» لأن حياته الجديدة مليئة بالهزل والتعليق وقصص ألف ليلة وليلة، ولأنه كما يقال أينما تضع نفسك ستجدها، وجد نفسه تائهاً يعتمد في حياته الوظيفية على «القص واللزق» وثقافة رؤوس الأقلام، وعندما رأى زملاء له أصغر منه سناً وخبرةً عملية يسابقون الزمن بالجد والاجتهاد وتطوير الذات، لم يعد أمامه سلاح سوى محاربتهم والتشكيك في قدراتهم، والغريب أنه أصبح يصدح في كل مناسبة ومجلس بالظلم الواقع عليه لعدم ترقيته لأحد المناصب! [email protected]