لا يفيد الاجتزاء في مقاربة الوضع الراهن للقضية الفلسطينية، مثلما تضر النظرة الأحادية الجانب، التي تناقش أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، من مدخل أزمة القيادة فقط، أو أزمة البرنامج، أو خطأ الرهانات والخيارات، أو تعثر عملية البناء المجتمعي، أو وطأة التدخلات الخارجية. وما سوى ذلك من الظواهر الموجودة مجتمعة، في ممرات البنية الفلسطينية. خلافاً لذلك يصير من الأفضل مراجعة ما كان للحركة الوطنية الفلسطينية من سياق سياسي عام، ذاتي وموضوعي، لمقارنته بالظواهر الأساسية، التي تلعب دوراً مقرراً في مسار السياق السياسي الحالي. هكذا مقارنة استرجاعية تسمح بالوصول إلى خلاصات موضوعية، تمنع المبالغة التي قد تأخذ الوضعية الفلسطينية إلى التهور، مثلما قد تقودها إلى الخسارة المجانية. أبرز ما في السياق السياسي الفلسطيني، الماضي، سياسة استقواء الحركة الوطنية الفلسطينية بذاتها، أي بشعبها، الذي توجهت إليه باقتراحاتها، فاستجاب لها، وأولاها أمور قيادته. كان للاستقواء خطواته الحذرة، لكن المحسوبة بمقاييس موضوعية، لا تخلو من بعض الإرادوية، التي ترافق كل حركة نضالية. على هذا الصعيد الاستقوائي، خرج الفلسطينيون، المغيبون بقرار رسمي عربي، على المحصلة السياسية العربية العامة، واخترقوا سقوفها، وهم باشروا، من دون تردد، شق طريقهم الخاص، المتصل برؤيتهم الجديدة لأوضاعهم، بقوة السلاح، وطبقوا مبدأ «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة»، الذي كان شعاراً ناصرياً، عجز «الناصريون» عن تطبيقه. الاستقلال بالنهج السياسي – النضالي، دفع إلى استعادة «الاستقلالية الفلسطينية»، الموزعة بمقادير، على دول «الطوق العربي»، وإلى استرجاع الصوت الفلسطيني، ليكون ممثّلاً، في المحافل كافة، بأصوات أبنائه. كان كل ذلك، تجسيداً للحضور الفلسطيني، الوازن والكثيف، وكان للتجسيد معطياته المساعدة، والمحتضنة. من أبرز العوامل المساعدة، كان قرار «النظام العربي الرسمي»، الرد على الهزيمة التي نزلت به، في حرب عام 1967، والسعي الى إعادة الاعتبار إلى مسوغات شرعيته، التي شكل تحرير فلسطين البند الأول من جداول أعمالها. حاجة النظام العربي إلى جر المزاج الشعبي إلى خارج ميدان المساءلة والمحاسبة، واكبها مناخ جماهيري، قبل التبرير الرسمي، فأعطى فرصة سماح إضافية لأصحابه، واحتضن «المخرج الكفاحي»، الفلسطيني، فآزره وانتصر له. دارت السياسة الجديدة، تلك، ببعديها العربي – الشعبي والفلسطيني، في مدار مناخ دولي محفز ومؤاتٍ، كان يضج بأخبار المواجهات الناجحة، التي تخوضها حركات التحرر في عدد من البلدان... النائية. لكن السياق الاستقلالي الفلسطيني لم يكن بلا أثمان، فلقد اضطر القيمون على الاستقلالية الوليدة، إلى «السباحة» غير الآمنة، دائماً، في لجج المحاور العربية، مثلما كانوا عرضة لضغوط شتى، سياسية ومادية، وخاضوا غمار مواجهات قتالية، مع أكثر من «خصوصية وطنية» عربية. كانت تلك ضريبة التفاعل الفلسطيني – العربي، وأحكام التأثير المتبادل، بين «التثوير» المحمول في فوهات البنادق، و «التدجين»، الذي رأى في الفعل الفلسطيني تجاوزاً لا يحتمل، على قدراته المحلية. ذاك كان الأمس، لكن ماذا عن اليوم؟ ودائماً على صعيد الإطار العام، الذي يحيط بالقضية الفلسطينية. تقدم المعاينة والوقائع صورة سياق سياسي آخر، يكاد يكون مناقضاً تماماً، للسياق الذي جرى تناوله. من دون تفاصيل، وعلى صعيد العناوين العامة، لم يعد الدولي هو الدولي، والعربي صار مختلفاً، والفلسطيني انتقل من حال إلى حال. أما الخط البياني، الذي يدل على ذبذبات الفعل النضالي بشقيه، العربي والفلسطيني، فلازم المنحنى الانحداري، الذي تتفاقم الأخطار المترتبة عليه، يوماً بعد آخر. انعكاس ذلك على القضية الفلسطينية، التي هي موضوع المعالجة، يظهر جلياً في تقلص مساحة الابتكارات، وفي تراجع مروحة الخيارات السياسية المفتوحة، وفي ضيق هامش المناورة. لقد صار ذلك من التاريخ، الذي ميز الحقبة «العرفاتية»، من ضمن الحقبة العربية والعالمية العامة. تراجع الإنجازات، الوطنية الفلسطينية، وسد المنافذ أمام آمال تحققها، انعكسا سلباً على الأداء القيادي والشعبي في فلسطين. لذلك لم يعد مستغرباً الارتباك الذي تشهده أروقة السجالات الفلسطينية، والميل إلى «اللغة القصوى»، عند طرح سؤال ما العمل؟ الذي تتميز الإجابة عنه، بصعوبة سياسية بالغة. هذا الواقع، الصعب، يجعل الحديث عن المخارج مسألة معقدة ومتشابكة ومتداخلة، لذلك ينبغي الحذر من الاستنسابية في الاقتراحات، ومن الاستسهال في اعتماد الحلول... وما يزيد في ضرورة ملازمة الحذر، هو الواقع «المتدحرج» الذي آل إليه أمر قيادة القضية الفلسطينية، التي باتت موزعة بين ماضي «حركة فتح»، وماضوية «حركة حماس»، والمعلوم أن جمع الماضيين لا يصنع مستقبلاً. قد يكون الأجدى، راهناً، توجيه الدعوة العامة إلى نقاش سياسي مفتوح، تطرح على طاولته حقيقة الصعوبات، ونوع المخارج السياسية المتاحة، وأساليب الكفاح الأجدى... لعل ذلك يفيد في تحصين الوضع الفلسطيني، الذي فقد الكثير من حصاناته، بأيدي أبنائه أولاً، وبأيادي الآخرين، ذوي «النجدات» العربية والإقليمية. * كاتب لبناني.