كشف المراقب الشرعي في أحد البنوك السعودية، المتخصص في المعاملات المصرفية الإسلامية عبدالرحمن الجار الله، وجود ملحوظات شرعية في عدد من الهيئات الشرعية الموجودة في المؤسسات المالية ونعى على بعض تلك الهيئات الشرعية ضعفها في جوانب التدقيق والرقابة، وعدم استقلاليتها التامة عن التأثر بضغوطات إدارات المؤسسات. وأكد الجار الله في حوار مع «الحياة» أن ذلك التناقض برز عنه مخالفة هيئة شرعية في مؤسسة مالية لمخالفة هيئة شرعية أخرى وإلى التساهل في تجويز معاملات مرجوحة وأخرى معتمدة على تقليد أقوال فقهية أقرب إلى الشذوذ، وهو ما يجعلها تخضع لإباحة المعاملات الشرعية صورياً في حين أنها تدخل في حقيقتها ضمن الخدع الفقهية. وشدد على أهمية إنشاء هيئات شرعية عليا لترشيد الفتيا المالية وضبطها. ودعا المؤسسات المالية إلى الاستعانة بجهات خارجية في الاحتكام وإصدار الفتاوى في المعاملات المالية بدلاً من الاعتماد على الأفراد الذين يكونون معينين في هذه المؤسسات ويكونون في الغالب معرضين للضغوط، وهو ما يجعلهم استقلاليتهم في التدقيق والفتوى محل نظر إلا في ما ندر... فإلى نص الحوار: تعرف الهيئات الشرعية في المجتمعات بأنها جهاز يضم عدداً من الفقهاء المتخصصين في المعاملات المالية لبيان الحكم الشرعي في معاملات المصرف، ويتابع تنفيذها للتأكد من سلامة التنفيذ، لكن من الناحية التفصيلية ... ما الأمور التي تشملها الهيئات أيضاً؟ - فعلاً، الأمر كما ذكرته، والهيئات الشرعية المتخصصة في المعاملات المالية بهذا المفهوم تشمل أمرين: الأول، الإفتاء. والثاني التدقيق، فمن مهامها بيان الحكم ثم التأكد من تطبيقه، أما إذا لم تتوافر في الهيئة الشرعية هيئة للتدقيق والرقابة فإن استقلاليتها حينئذٍ ستبقى محل نظرٍ. قد يتبادر إلى الذهن سؤال مفاده: ولماذا نشأت الهيئات الشرعية من الأصل؟ وكيف شعرت الجهات التي أنشأتها بأهميتها؟ - في الواقع لا يوجد تأريخ لنشأة الهيئات الشرعية، إلا أنَّه يمكن القول بأن نشأة الهيئات الشرعية كان مع نشأة البنوك الإسلامية، وذلك لأن المعاملات المالية تحتاج إلى تدقيق ونظر للتأكد من سلامتها من المآخذ الشرعية لتكون المعاملة المالية مباحة. إذا كان الأمر - كما تذهب إليه -... فلماذا تعاني هذه الهيئات من الاضطراب في آرائها وتبدلها من حين لآخر؟ - مما لا شك فيه أن الهيئات الشرعية حققت نجاحات، وأفرزت تجاربها عن آراء ناضجة فقهياً ومالياً، غيرَ أنَّ العمل البشري لا يخلو من خلل، والأسباب التي أدت إلى الاضطراب في عمل الهيئات الشرعية ترجع إلى أمورٍ عدة، كالظروف التي أحاطت بنشوء المصرفية الإسلامية، وواكبت تطورها عبر العقود الماضية، من تغير أعضاء الهيئات الشرعية، ومن ثم تتغير وجهة النظر التي كانوا يتبنونها، وكالضغوط التي تمارسها البنوك المركزية، وإدارات المصارف المتعاقبة. والتكوين المذهبي، والقوة العلمية، والميل الطبيعي إلى جانب الرخصة أو العزيمة، لأعضاء الهيئات الشرعية. هل يعني هذا أن الهيئات الشرعية لديها ملحوظات في عملها الشرعي نفسه؟ - هذا الموضوع من المواضيع المهمة، إذ إنَّ تلك الملحوظات تُفقد الثقةَ بالمصارف الإسلامية؛ إذ يؤدي مثلُ هذا إلى اضطراب الأحكام الشرعية، كما تؤدي إلى التشتت والاضطراب خاصة على مستوى العملاء، كما أنَّ تلك الملحوظات قد تتخذُ ذريعةً للتشكيك في عملِ تلك الهيئاتِ، وهذه الممارسةُ لا يحسنُ أن تكون عائقاً عن بيان تلك الأخطاء؛ إذ إنَّ بيانها مقدمة لاجتنابها وسبيل تصحيح مسارها. هل لك أن تضرب لنا أمثلة على الملحوظات الشرعية التي ترتكبها هذه الهيئات؟ - من الملحوظات التي ينبغي الاهتمام بها أن بعض المؤسسات المالية تتعامل بمعاملات تندرج ضمن الحيل الفقهية، وعلى سبيل المثال نجد أن الهيئات الشرعية نجحت في تقديم عدد من الحلول المالية في حقل الصناعة المالية الإسلامية، لكن في خضم المنافسة، وتحت ضغط الواقع فإن بعض المؤسسات المالية قد تلجأ إلى تتبع رخص المذاهب، أو الأخذ بأقوال مرجوحة، أو الصير إلى الحيل الفقهية، التي تعتمد على صورية المعاملة من دون النتيجة والهدف المقصود منها، أو تقلد من لا يجوز تقليده لمخالفته النص أو الإجماع أو القياس الجلي، بعيداً من الهيئة الشرعية فيها، بل إن بعض الهيئات قد تسلك المسلك نفسَه، فتكتفي بمجرد وجود قول في كتاب فقهي، بغض النظر عن كونِ القول راجحاً أو مرجوحاً؛ مبررين ذلك كله بأن الصيرورة إلى ذلك هو البديل عن الوقوع في الربا الصريح، فهذه المسالك قد تحتفظ بجزء من المشروعية ولو كان صورياً، أما الربا فهو فاقد للمشروعية تماماً، ولعل في بعض المقترحات لتطوير عمل الهيئاتِ معالجة لتلك المشكلات، وتصحيحاً لمسارها. هل هذا ما أدى إلى تعدد الهيئات الشرعية واختلاف آرائها ونوع من الشد والجذب بينها؟ - طبعاً، ويمكنك أن تضم هذا أيضاً إلى نقاط الضعف في هذه الهيئات، فهي تعاني كما ذكرت من التعدد واختلاف الآراء في المعاملات المالية، فلكل مؤسسة مالية هيئة الشرعية خاصة بها، والمنقطعة العلاقة – في الغالب – عن الهيئات الشرعية لمصارف الأخرى. وكثيراً ما نجد هيئة شرعية لمصرف أفتت مثلاً بجواز معاملة، وهيئات أخرى تمنعها. ماذا عن الوضوح والشفافية في التقارير الرقابية للهيئات الشرعية؟ - من المهم جداً أن أشدد على المعاناة في هذا الجانب، فثَمة عدم الوضوح والشفافية في التقارير الرقابية؛ والهيئات الشرعية تقدم بياناً للجمعية العمومية، توضح فيه مدى التزام المصرف بأحكام الشريعة في معاملاته، وكثيراً ما يكون البيان جزئياً وليس شاملاً، بناء على بعض المعاملات التي نظرت فيها الهيئة، فالغالب أن المصارف تصدر بياناً فقط لا حكماً في معاملات المصرف، والجمهور لا يعرفون ما هو رأي الهيئة الشرعية في تطبيقات المصرف، ومنتجاته، ويستثنى من ذلك بعض الأمثلة النادرة، مثل أن الهيئة الشرعية في بنك الجزيرة أصدرت أخيراً تقريراً تُعبر فيه عن مدى التزام البنك بأحكام الشريعة الإسلامية. هذا قد يجر إلى سؤال آخر حول مسألة التدقيق والمراقبة، إذا كانت البيانات جزئية والأحكام مجملة... فكيف نتأكد من جودة التدقيق والمراقبة؟ - بالضبط، الهيئات الشرعية تعاني جداً من قصور التدقيق الشرعي على التعامل مع البنوك المراسلة الخارجية الربوية، إضافة إلى قصورها في تتبع ومراقبة معاملات المؤسسات المالية على أرض الواقع في الخارج، باستثناء بعض هيئات الرقابة الشرعية التي حاولت التأكد من شرعية المعاملات الخارجية التي يجريها وكيل المصرف، ولا سيما ما يتعلق بتعيين السلعة، وصحة تملك البائع لها. هل هذا يعني أن المؤسسات المالية الإسلامية على رغم وجود الهيئات الشرعية فيها تعاني من فراغ ما؟ - الفراغ الحقيقي الذي تعاني منه المؤسسات المالية الإسلامية، يصح أن نطلق عليه «شبه فراغ تشريعي»، فهي الآن في أمسّ الحاجة إلى تشريع عام يضبط لها مسارها، ويقارب بين منتجاتها، ويوحّد لغة التفاهم بين بعضها البعض من جهة، وبينها وبين الباحثين والمراقبين والجمهور من جهة أخرى. وقليلون هم الذين يعرفون أنه لا توجد مرجعية واضحة لدى المؤسسات المالية الإسلامية عامة، لا على مستوى المعايير ولا على مستوى الفتاوى الصادرة عن هيئاتها الشرعية؛ وهو ما أدى إلى مشكلات متعددة الاتجاهات، من أهمها تفاوت الصيغ التمويلية والاستثمارية، واختلاف الممارسات، ومن ثم تكريس الريبة في المصرفية الإسلامية من المؤسسات المالية التقليدية، وكذلك من الجمهور، وهو ما يؤكد أهمية الموازنة بين المبدأ والتسويق. بصفتك مراقباً شرعياً... ما الحلول التي تقدمها لهذه المشكلات؟ - لا يمكن تجاوز أي من هذه المعضلات إلا بصحة التكوين، الذي يعد من شرط العمل المؤسسي الناجح، وأن يتزود العمل بالعناصر القادرة على إدارته بالكفاءة المطلوبة، وهذا يستدعي أن تتأسَّس الهيئة الشرعية على فقهاء متخصصين بالمعاملات المالية، واقتصاديين، وباحثين، وأعضاء الهيئة الشرعية هم الفقهاء في المعاملات الماليَّة، وهم أساس العمل فيها، وعليهم يقوم عبء الفتيا، وإليهم وحدهم ينسب القرار النهائي، والفقيه إنما سمي فقيها لحيازته علم الفقه، والفقيه: هو المحيط بمدارك الأحكام، من الأدلة الشريعة الأصلية والتبعية، وتوافر على معرفة مقاصد الشريعة، وفهم اللسان العربي ودلالات ألفاظه، فإذا صح التكوين واستقلت الهيئة الشرعية بقرارها فهذه الخطوة الأولى للنجاح. لا شك في أن الهيئات الشرعية يتوافر فيها الاختصاصيون والعلماء، ولكن يبدو أن لديك مطالبَ أخرى ترى تحققها في الهيئات الشرعية إضافة إلى ذلك. - المقصود بكلامي السابق هو أن الناحية العلمية مهمة جداً، إضافة إلى أنه من المهم أن يحيط أعضاء الهيئات الشرعية بمقصد الشريعة في أبواب المعاملات، ذلك أن المعاملة قد تظهر بمظهر الصورية، كما أنَّه لازمٌ لعضو الهيئة الشرعية أن يكون فطنا ليتمكن من التفريق بين الحيل المحرمة والمخارج الشرعية.