لا يُحسد الصحافيون الجزائريون على أوضاعهم المهنية التي يعيشونها منذ زمن، والتي تضعف من مكانتهم وتجعلهم دائماً في موقع «المتهم» ... حتى تثبت «براءتهم». قبل أسابيع توفي الصحافي الجزائري شوقي مدني (53 سنة)، إثر نوبة ضيق في التنفس قبل أن يغادر الفندق الذي يبيت فيه، والذي كانت السلطة أعدته للصحافيين في تسعينات القرن الماضي، لحمايتهم من الاعتداءات الإرهابية التي كانت تعصف بالبلاد آنذاك. ورأت الصحف الجزائرية التي اهتزت لموته المفاجئ أن مهنة البحث عن المتاعب قتلت مدني. ويزايد الصحافيون بالقول: «الصحافة تأكل أبناءها». كثيرون ممن كتبوا عن مدني عرفوه واقتسموا معه ضغوط السلطة والعدالة والأجور الزهيدة ومشاكل السكن والنقل وكل أشكال البؤس الاجتماعي، مثلما عاشوا معاً انتصارات الصحافة وأيام عزها وصدقيتها وأحياناً... سلطتها. فهل «قتلت» الصحافة مدني فعلاً؟ أم تراها اتهمت ظلماً لتمديد عمر السكوت عن الذين قتلوه... وما أكثرهم؟ وهل يطلق موت هذا الصحافي شرارة المطالبات الاجتماعية والمهنية بالحرية أم إنه سيحوله إلى «قديس» منسي أحب المهنة حتى قتلته... حباً وتعباً؟ زادت سمعة مهنة المتاعب سوءاً عندما أشاع خبر وفاة الصحافي مدني خبراً آخر عن وفاة ثمانية صحافيين شباب في هذه السنة بسبب الضغوط الاجتماعية. واعتصم أكثر من 200 صحافي تنديداً واحتجاجاً على الوضع الاجتماعي الذي آلوا إليه، وهم يبكون زميلهم ويتنبؤون بغيره في قافلة «الراحلين». قصة الصحافة الجزائرية لا تشبه غيرها من القصص بسبب الظروف «الاستثنائية» التي ولدت فيها بداية تسعينات القرن الماضي، وتمتعت خلال السنوات الثلاث الأولى ببحبوحة حقيقية على مستوى الحريات والانفتاح الذي جاء به دستور 1989. ووجد الجزائريون أنفسهم أمام إعلام مرئي ومسموع ومقروء منفتح وحر وجريء يحسدهم عليه حتى سكان الدول الأكثر حرية. لكن الإرهاب ظهر ومعه وظيفة جديدة للإعلام لم يكن مستعداً لها، وهي «محاربة الإرهاب». ووجد كثير من الصحافيين أنفسهم في الجبال مع العسكر وفي الثكنات لتغطية عمليات القبض على المجموعات الإرهابية، وكذلك في جنائز زملائهم الذين دفعوا باهظاً ثمن مواقفهم، إذ قتل حوالى ستين منهم برصاص الإرهابيين الذي لم يفرق بين تلفزيون أو إذاعة أو جريدة. وتحول دور الصحافيين من العمل إلى النضال في بلد كان أخطر مكان في العالم تمارس فيه الصحافة، بحسب تقارير المنظمات الدولية لحقوق الإنسان عام 1997، ما رفع من مكانة الصحافة الجزائرية التي حظيت بكثير من التشريف والتكريم والتقدير من طرف الجزائريين والأجانب على حد السواء. لكن شيئاً فشيئاً تراجعت حرية الإعلام كغيرها من الحريات العامة أمام قانون الطوارئ، ولم يبق في البلد إلا وهم «حرية الجرائد»، ما عزز من الإحباط الذي سيطر على الصحافيين «النزهاء» الذين وجدوا أنفسهم يهوون من النضال من أجل الحرية والجمهورية المقدستين إلى المعاناة من أجل الخبز، مثل أتعس مواطن يدافعون عنه في جرائدهم. إلى ذلك، يضاف استمرار حصار قانون العقوبات، وبات الصحافي يكتب تحت سيف الحبس الذي رفعت مدته في آخر تعديل للقانون إلى ثلاث سنوات، إضافة الى الغرامات التي تساوي عشرة أضعاف مرتبات الصحافيين كحد أدنى، وقيمة التعويضات الخيالية والإجراءات الأخرى التي تذهب إلى حد إقفال الجريدة. فكانت النتيجة أن أصبح عدد الصحافيين أمام محكمة الجنح يتجاوز ربما عدد اللصوص. أما عن معاملة القاضي للإثنين «فتكاد تكون متساوية»، بحيث لا يمكن أن يعرف المتفرج مَن الصحافي ومَن اللص! ويقول رئيس «الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان» بوجمعة غشير: «بدأت الصحافة حرة في التسعينات، لكنها تطورت في اتجاهين: الأول يعني الصحافة من الداخل، إذ أنشأ بعض الصحافيين عناوين نجح بعضها فتحولوا مع الوقت إلى أصحاب مصالح مالية يبحثون عن الإعلانات وعن سبل تعزيز المركز المالي لجرائدهم، ما أثَّر على الممارسة الصحافية وأضرَّ بحق المواطن في الإعلام. في المقابل، يشتكي كثير من صحافيي القطاع الخاص من تدني الأجور ومن الممارسات غير المهنية، ما أدَّى إلى سوء معيشتهم، وبالتالي تراجع مردودهم». ويشير غشير إلى أن «أصحاب رؤوس الأموال من الشركات التي تقدم إعلانات كبيرة لبعض الصحف يتمتعون بامتيازات فيها تتنافى وأخلاقيات المهنة». أما الاتجاه الثاني فهو – بحسب غشير - «العلاقة بين الصحافة والسلطة التي عرفت من جهتها تقهقراً كبيراً. فالصحافيون لا يصلون إلى مصادر الخبر، وحتى الأخبار المهمة التي يحصلون عليها غالباً ما تكون تسريبات من جهات معينة لتصفية حسابات مع جهات أخرى، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة الرقابة الذاتية لدى الصحافيين بسبب كثرة القضايا عليهم أمام عدالة لم تساير التطور الواقع في المجتمع. إذ مازالت تدين الصحافيين بتهمة القذف حتى في الأخبار الصحيحة، ما يؤثر على شروط الحكم الراشد، خصوصاً لجهة الشفافية في المعاملات». ولا شك في أن للإقفال السياسي الذي يعانيه البلد نصيبه في المسؤولية عن تراجع الصحافة الجادة التي تتابع تحولات المجتمع وانتعاش الصحافة التي تعتمد على إثارة الغرائز كالجنس والعواطف كالدين. ويرى شعبان زروق، المدير العام السابق لجريدة «النصر» والمنسق المحلي لجريدة «الخبر» أن الصحافي «النزيه» يواجه ضغوطاً كبيرة ناتجة أولاً من شعوره بواجباته تجاه المجتمع ودوره في التبليغ عن مشاكل المواطنين الذي يعرقله غلق مناخ العمل وصعوبة الوصول إلى المصدر وعدم تقبل المسؤولين الدور الذي يقوم به. ويشير زروق إلى قضية استدعي هو أخيراً إلى المثول أمام العدالة بسببها، وعمرها 12 سنة، بسبب خبر نشر عن تصريحات أعوان الأمن في شأن مجموعة إرهابية قبض عليها آنذاك. وقاضى عضوان من تلك المجموعة بعد حصولهما على البراءة مدير الجريدة والصحافيين بدل المسؤولين عن القبض عليهما، واستصدرا حكماً أولياً بالتعويض والغرامة، وذلك لأن الصحافي هو الحلقة الأضعف ويمكن دائماً معاقبته لأنه معروف... وفي الواجهة. وذكر آخر تقرير أصدرته «مبادرة المساواة بين المرأة والرجل في الصحافة الجزائرية» التابع للفيديرالية الدولية للصحافيين، وأعدته الصحافية إلهام تير، و عُرض الشهر الماضي في عمان خلال اللقاء الإقليمي للصحافيين الأعضاء في المنظمة، أن ظروف العمل بالنسبة الى المرأة الصحافية متدنية. وكشف أن 78 في المئة من أجورهن غير معروفة، كما أن الاتفاقات الجماعية نادرة في الصحافة الخاصة التي تمثل ثلاثة أرباع الصحافة في الجزائر. وأظهر التقرير ان 33 في المئة من الصحافيات الجزائريات يعتبرن أنفسهن متضررات بسبب الفارق في الأجر بينهن وبين زملائهن الذكور، فضلاً عن صعوبة الوصول إلى مناصب المسؤولية. إذ لا تشغل إلا 0.86 في المئة من الصحافيات منصب مديرة تحرير. وعلى رغم ذلك تعتبر المعنيات بالتقرير أن «الأولوية للتدريب والتكوين»، وهو الغائب الأكبر عن قاعات التحرير الجزائرية. يساوي متوسط أجر الصحافي في الجزائر اليوم نحو 300 يورو، في حين يساوي متوسط إيجار المنزل وحده في أحياء بسيطة في العاصمة 200 يورو. وكانت دراسة نشرتها جريدة «الوطن» الفرانكوفونية الجزائرية أخيراً أفادت بأن العائلة الجزائرية المتوسطة لا تستطيع أن تعيش بأقل من 38 ألف دينار (نحو 380 يورو) لضمان الأساسيات. أما الكماليات فتبقى رفاهية غير مدركة، إذ يبلغ ثمن أرخص سيارة جديدة في الجزائر مثلاً نحو 8000 يورو. وإلى أن تتحسن أوضاع الصحافة في الجزائر، يعيش الصحافيون طويلاً آمنين شر الحبس والجوع والإهانة: «أدخن الشاي وأبقى مستيقظاً، فالكابوس مستمر...»، على حد تعبير الصحافي في جريدة «لوسوار دالجيري» حكيم لعلام.