هل ثمة فعلاً ما يُدعى «الشرق الأوسط»؟ أحاول شخصياً تفادي استخدام دلالة جغرافيّة فارغة كهذه تعود إلى مطلع القرن العشرين، حين كانت السفن تبحر من مرفأ لندن متّجهةً شرقاً وتحتاج إلى التوقّف لتعبئة الوقود في الشرق الأدنى (أي مالطا وقبرص)، وفي الشرق الأوسط (أي السويس وعدن) ومن ثمّ الشرق الأقصى (أي بومباي وما بعدها). لكن مرفأ لندن لم يعد محور العالم، ولم تعد الأساطيل مضطرّة للتوقّف عند محطّات الفحم الحجري لتتمكّن من عبور المحيطات، وما زالت عبارة «الشرق الأوسط» تدلّ على منطقة ما من تعريف لها متّفق عليه وما من حدود واضحة لها، والأسوأ من ذلك أنّها فارغة من أي محتوى ثقافي أو سياسي، فقد ورثنا العبارة بغياب عبارة غيرها. وما من أمر يمكنه الوشي بفراغ هذه العبارة خَير من التعدّد العشوائيّ للتعريفات المعطاة لهذه المنطقة. فالشرق الأوسط بنظر الخطوط الجوية الفرنسية «إر فرانس» ليس الشرق الأوسط نفسه بنظر الخطوط الجوية البريطانية «بريتيش إرويز»؛ تحديد الشرق الأوسط في وزارة الخارجيّة الأميركيّة ليس نفس الشرق الأوسط المعروف في أروقة البنتاغون، والتحديد الذي تعطيه وزارة الخارجيّة البريطانيّة للمنطقة لا يتناغم مع التحديد الذي تستخدمه وزارة الخارجيّة الفرنسيّة أو الصينيّة. والبعض يعرفّ الشرق الأوسط بكل بساطة على أنّه «اسرائيل وجوارها»، فيما يضمّ آخرون بلدان آسيا الوسطى إلى الشرق الأوسط آخذين بالاعتبار انهيار الاتّحاد السوفياتي. وجرى نقاش لا ينتهي حول إذا ما كان السودان وشمال أفريقيا، وطبعاً إيران وتركيا، تشكّل جزءاً منه. وفي إحدى المرّات سألتُ مسؤولاً أميركيّاً أين يقع الشرق الأوسط فأجابني إجابة مذهلة وإن مقفّاة قائلاً: «من مراكش إلى بنغلادش.» وهي عبارة مجمّلة إنّما صعبة التنفيذ. هذه الفوضى غير الاعتياديّة حول تعريف منطقة ما ليست عرضيّة، ولم تعانِ منها منطقة أخرى، أقلّه ليس بالحدّة عينها، لا أميركا اللاتينيّة ولا أفريقيا جنوب الصحراء ولا شبه الصحراء الهنديّة ولا أوروبا. ثمة حرب مفتوحة بشأن كيفيّة تحديد الشرق الأوسط، وهي تضمّ اختلافات عميقة حول معايير هذا التحديد. وبطبيعة الحال، يحاول كلّ من اللاعبين إعطاء تحديد يناسب مصالحه بالطريقة الأفضل، لذا يُطرَح الكثير من نسخ للشرق الأوسط متراكمة ومتداخلة ومتنافسة وتنتظر موافقتكم، لذا دعوني أعطيكم بعض الأمثلة لتجسيد هذا الواقع. قام وزير الخارجيّة الأميركي جيمس بايكر بتقديم أحد الطروحات في افتتاح مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 قائلاً: «منذ أربعة عقود والعالم ينتظر هذا الأسبوع.» وفي ذلك الوقت كانت الولايات المتّحدة، تقتنص فرصة هزيمة العراق في الكويت، لتحاول هندسة منطقة «مينا» أي «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» (وفق الاختصار الانكليزي لاسم المنطقة Mena)، وإعدادها للسلام. وهذا المبدأ الذي اقترحه بكلّ تواضع وواقعيّة وزير الخارجيّة بايكر، الذي لا يعرف الكلل، أصبح بدعة متكاملة في كتاب شيمون بيريز، الصادر عام 1993، حول «الشرق الأوسط الجديد»، وهو حلم تقبل فيه دول الشرق الأوسط كلّها هيمنة إسرائيل العسكريّة على المنطقة وتفتح آبارها النفطيّة أمام مستثمريها وتضغط على الفلسطينيين ليقبلوا بإنشاء بانتوستان (أي معزل) صغيرٍ منزوعِ السلاحِ يطلقون عليه اسم «دولة فلسطين». وكان من المفترض استبدال الإنسان العاقل الشرق أوسطيّ الذي نعرفه ب «الإنسان الاقتصادي» الشرق أوسطيّ المحبّ السلام، واستبدال الحرب العاديّة بحرب الأعمال، ويجب على التكامل الإقليمي أن يضع حدّاً للصراعات التي تفكّك المنطقة، وعلى الوضع الطبيعيّ أن يتفوّق على الاستثناء. الشراكة الأوروبية في الوقت نفسه، قامت أوروبا، كي لا تتفوّق الولايات المتّحدة عليها، بإطلاق الشراكة الأورومتوسّطية الخاصّة بها. ويعتبر الأوروبيّون أنّ البحر المتوسّط الحيادي من الناحية السياسيّة يشكّل إطاراً إقليميّاً أكثر أماناً من الشرق الأوسط الدائم الاضطراب. وخطّطت أوروبا لتمسك بمقاليد القيادة بدلاً من الطرف الأميركيّ. لكنّ الهدف هو هو: دعم اسرائيل وطرد إيران وتهميش تركيا، والنتيجة هي الحصول على بحر متوسّط مزدهر وهادئ. وهذه من أهمّ أولويّات الأوروبيين من أجل خفض عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين يعبرون البحر المتوسّط من الجنوب إلى الشمال. وهذا جوهر ما يُعرَف بعمليّة برشلونة التي أعيد إحياؤها أخيراً إنّما بطريقة غير مقنعة على شكل اتّحاد من أجل المتوسّط. وكانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المستوحاة من الولايات المتّحدة والشراكة الأورومتوسّطيّة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعمليّة السلام التي توقّفت فجأة بعد اغتيال رابين عام 1995. وهذان الإطاران (الأوروبي والأميركي) مستوحيان من فكرة بسيطة مفادها أنّ السلام يعود على الأعمال بالمنفعة، والأعمال خصوصاً تعود على السلام بالمنفعة أيضاً. وأظهرت هذه الفكرة التي تشجّع السلام من دون أدنى شكّ فعاليّتها في أجزاء أخرى من العالم، لكنها أثبتت أيضاً أنّها بسيطة جدّاً في منطقة حذّرنا الجنرال ديغول منذ 70 عاماً أنّه من الخطر العودة فيها إلى «شرق معقّد بأفكار بسيطة». لذا، لطالما اصطدمت هذه الأنواع من جهود التعاون بالنتائج الهزيلة التي أسفر عنها الماضي، ولربما ستصطدم دوماً باحتمالات النجاح الهزيلة أيضاً في المستقبل. وفي حين أصبحت هذه النتيجة المخيّبة للآمال واضحة للجميع، حثّت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) حثاً مفاجئاً وعنيفاً على إعادة بلورة المنطقة التي ولَّدت المعتدين. ابتدع جورج بوش الابن فكرةً جديدةً عُرفت بالشرق الأوسط الكبير، حيث يجب سحق معظم الدول الإسلامية (وبعض الدول الأخرى)، سعياً منه إلى تحديد إطار جغرافيّ لحربه العالميّة على الإرهاب، وقد سمحت الفكرة له أن يضع في سلة واحدة كل من أفغانستانوباكستان والعراق واليمن وليبيا والسودان لتكون أهدافاً محتملة. وتوجّب بالمحصّلة استخدام القوّة العسكريّة استخداماً منهجياً لإحلال الديموقراطيّة استناداً إلى فكرة تقول انه لا يمكن إعادة بلورة شرق أوسط حيث يحل السلام إلا من خلال تغيير قسريّ لأنظمة الحكم والإطاحة بالمستبدّين والطغاة. وفي ذلك الوقت، أعلنت الاستراتيجيّة الوطنيّة الأميركيّة الرسميّة لعام 2002 بوضوح أنّ التجارة الحرّة ليست هدفاً اقتصاديّاً فحسب بل أخلاقيّاً أيضاً. في ذلك الوقت، كان البنتاغون يستعد للحرب على العراق ومتورّطاً في القتال ضد طالبان في أفغانستان. وفي ذلك الوقت، استخدم جورج بوش الابن كلمة «حريّة» حوالى 50 مرّة في الخطاب الافتتاحي بعد إعادة انتخابه للمرّة الثانية. وفي ذلك الوقت، أصبحت رؤية ناتان شارانسكي للشرق الأوسط الغريبة الرؤية الرسميّة نفسها لرئيس الولايات المتّحدة الأميركيّة. وفي ذلك الوقت أيضاً، صار كلّ عربي و/ أو مسلم مشتبهاً به. وكتب دايفد أيكمان «إنّ المساهمة الأكثر إثارة للدهشة للثقافة العربيّة الحديثة في الحضارة العالميّة الجديدة هي جهاز التفتيش في المطارات»، ويشدّد بيرس جونز على قوله «إنّ فكرة الديموقراطية العربية لا تعبّر عن مثالية بل عن تناقض»، ووحده استخدام العنف المنهجي كان ليضع حدّاً لهذه الانحرافات. وفي ذلك الوقت، كان من المفترض أن تولّد الحرب سلاماً في الشرق الأوسط. ووضع الرئيس أوباما بوضوح حدّاً لهذا الخطأ المضلل، فدفن الحرب العالميّة على الإرهاب كفكرة وإلى حدّ ما كاستراتيجيّة. وتوجّه إلى أنقرة ثمّ إلى القاهرة للتعبير عن «احترامه الإسلام» وعرض الحوار على إيران، وهي المحطّة التالية المعلنة للحملة العنيفة من أجل الديموقراطيّة. كان التوقّف هذا في المحاولات الخارجيّة لإعادة تحديد الشرق الأوسط بمثابة اعتراف مبطّن بأنّ أيّ من الأحلام الورديّة التي سادت في التسعينات، والتحرّك العسكري في العقد الحالي لم يولّد الشرق الأوسط الهادئ والمزدهر الذي أرادته القوى الخارجيّة. وأدى بنا هذا الفشل إلى تحويل اهتمامنا إلى الطريقة التي حاولت من خلالها القوى المحلية في الشرق الأوسط إعادة تحديد المنطقة بنفسها، فعلى رغم كونها بعيدة أشدّ البعد عن تحقيق مساعيها، إلا أنها اكتسبت أخيراً المزيد من الدفع والتأثير. إعادة «اختراع» الشرق الأوسط أيّ نوع من الشرق الأوسط يحاول «الشرق أوسطيّون» اختراعه؟ أقلّ ما يمكن قوله هو أنّه مختلف بين اللاعبين الإقليميين أنفسهم. فلنأخذ إسرائيل مثالاً لنكتشف فوراً أنّها عبارة عن عقلية الاحتماء في حصن لأنّها تختبئ وراء جدار بغيض من المفترض أنّه يحميها من جيرانها في حين تتّكل هي على هيمنتها العسكريّة التي لا جدال حولها لردعهم عن الاقتراب منها. لكنّ الحصن لم يعد مكاناً آمناً في عصر تنتشر فيه الصواريخ بسرعة في سوريا وجنوب لبنان وغزّة، أو حتّى في مكان بعيد هو إيران، البلد البالستيّ المحموم. يفيد الردع الدائم في التصدّي للدول المعادية، لكنّه يكون بالكاد فعّالاً في وجه المجموعات التي تتقن تكتيكات الحرب غير المتكافئة القوة، كما شهدنا في حرب عام 2006 مع حزب الله وفي بداية هذا العام في حرب غزّة. وإذا أضفنا إلى ذلك عاملين مقلقين هما التغيّر الديمغرافي الحاصل في فلسطين لمصلحة الفلسطينيين، وإيران التي تسلك طريقها لتصبح قوّة نوويّة، نفهم بكلّ سهولة (والبعض سيتعاطف مع هذه الحالة الجديدة) الصراع الوجودي في إسرائيل التي غضّت النظر عن الأحلام الورديّة بأن تصبح البلد الرائد في الشرق الأوسط وصارت تشكك بفعاليّة الحماية الأميركيّة بعد الوحول المتحرّكة التي يتخبط فيها الأميركيّون في العراق. والشرق الأوسط الحالي هو منطقة يعاني الإسرائيليون من كونهم جزءاً منها، وهم يعرفون أنّ ما من مهرب منها وأنّهم خسروا فرصة إعادة تحديدها كما يشاؤون، وهنا نرى اللاعب العالق في الشرق الأوسط بدلاً من أن يشكّل جزءاً منه. وفي حين أنّ الشرق الأوسط، وفق التصور الإسرائيلي قصّة من الماضي، فإن الشرق الأوسط بتصوّر الإيرانيين قصّة تتطوّر الآن. ففي العقد الماضي، ويعود الفضل جزئيّاً إلى أخطاء الأميركيين، تمكّنت إيران من زيادة تأثيرها زيادة كبيرة وبذكاء عالٍ في محيطها الإقليمي، مرسّخةً تحالفها مع سوريا الذي يبلغ من العمر 30 عاماً، وموسّعةً دعمها القويّ للاعبين غير الحكوميّين مثل «حزب الله» أو «حماس»، وبانيةً نفوذ بناءً تدريجياً على المجموعات العراقيّة. وفي ظلّ وجود كلّ هذه العوامل، أصبح تهميش إيران في الشرق الأوسط مجرّد مزحة وليس سياسة جدّية. فمن يجرؤ على التساؤل عمّا إذا كانت إيران جزءاً من الشرق الأوسط أو إنكار دورها الواسع في إعادة هيكلته؟ ومن يظنّ أنّ سلاماً دائماً في العراق أو أفغانستان ممكن من دون المساهمة الإيرانيّة؟ تريد طهران أن يكون لها دور في الحركات الإسلاميّة المتطرّفة في المنطقة مقارنةً بدور موسكو في الأحزاب الشيوعيّة في ذروة الثورة البلشفيّة. ويُعتَبَر اجتياز عتبة التسلّح النووي طريقة لتمتين هذا الدور وجعل العالم يعترف به. لكن الخطر الواضح يكمن في أن تُفَرِّط إيران في تأدية دورها، وأن تؤخذ بأخطر أنواع المشاعر كما في التراجيدية الإغريقيّة «هوبريس» حيث يصبح المرء بطلاً ومن ثم ينسى حدود طاقاته وينتهي ضحيّة طموحاته الشخصيّة. من هنا، لا يمكن للقادة الإيرانيين أن يتّكلوا اتكالاً كاملاً على خضوع المجتمع المدنيّ المتميّز بحيويّته، ولا يمكنهم تجاهل الشرخ الطائفيّ الذي ولّده ظهورهم في العالم الإسلامي متسبّبين بجعل شريحة كبيرة من الرأي العام السنّي تُدين نزعة السيطرة الواضحة لديهم، وهو كلام يمكن لأيّ زائر في الرياض أو عمّان أو القاهرة أن يسمعه من أي شخص يلتقيه. لذلك يمكن أن تشكّل المفاوضات المفتوحة مع الغرب الآن فرصة لإيران إمّا لتمتّن الأرباح الهائلة التي سجّلتها في العقد السابق أو، على العكس، لتضيّع هذه الأرباح في سعيها المتعطّش الى مزيد من النفوذ. وعلى إيران أن تفهم أنّ بروزها قوة إقليمية في المنطقة يعزى بشكل كبير إلى سياسة تركيا المنغلقة وتعلق أنقرة بالغرب بفضل انضمامها إلى حلف «الناتو» منذ عام 1952 وسعيها للانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي الذي كان محور سياستها منذ منتصف الستّينات. لكن كلّ هذه التغيّرات تحدث الآن وبوتيرة سريعة جدّاً، ففي السنوات الستّ أو السبع الأخيرة، وفي ظلّ قيادة حزب العدالة والتنمية، حرّرت تركيا سياستها من سيطرة القوّات المسلّحة الثقيلة، وبدأت تتعامل تعاملاً أكثر انفتاحاً مع مشكلة الأكراد، وتصالحت مع هويّتها التقليديّة التاريخيّة الثقافيّة، وهي الآن تعتمد ما يُدعى «العثمانيّة الجديدة» سياسةً إقليميّةً لها تسعى من خلالها إلى توسيع نفوذها في كلّ أجزاء المنطقة التي كانت يوماً مقاطعات من الدولة العثمانيّة من السنجق في صربيا غرباً إلى العراق وربّما الى ما بعد البصرة جنوباً عدا ذكر البلدان التي تنتهي أسماؤها ب «ستان» (مثال باكستان) شرقاً. لذا فالمصالحة مع أرمينيا جارية والأهمّ هو التقرّب الفاعل المتعدّد الأوجه مع روسيا التي تؤمّن لتركيا ثلثي حاجاتها من الغاز والذي صار واضحاً في خلال وبعد الحرب التي جرت في جورجيا في العام الماضي. عودة غير مريحة لكن ليست الأطراف كلّها مرتاحة لإعادة تركيا فرض نفسها قوة شرق متوسّطيّة إقليميّة لم تعد تشعر بأنّ التراث الإمبريالي يعيق طريقها. وإسرائيل قلقة أيضاً بشأن مستقبل الاتّفاقيّة الأمنيّة التي وقّعتها مع أنقرة عام 1996 وعموماً بشأن علاقتها الوثيقة السابقة مع القادة الأتراك. ويبدو أن خطّ تركيا الجديد أثار إعجاب الولايات المتّحدة أكثر من إثارة شعور التحدّي لديها - أرى أنّ الإدارة الأميركيّة الحاليّة لن تدين هذا الخطّ طالما ظلت تركيا عضواً مخلصاً في حلف شمال الأطلسي. أمّا الدول العربيّة، فكما هو متوقّع، منقسمة حول الطريقة الأفضل لتقييم هذه المسألة، واللاعب الوحيد الذي لا يملك الحقّ بالتذمّر من إعادة اندماج تركيا بشؤون الشرق الأوسط هو أوروبا. فمن خلال إغلاق أبواب الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي في وجهها، قام عدد من القادة الأوروبيين بمساعدتها من غير قصد في العثور على نفسها. وبطبيعة الحال يساعد قصر نظر البعض على بعد نظر الآخرين. كفانا حديثاً عن إسرائيل وإيران وتركيا، ماذا عن العرب؟ الإجابة الأسهل تكمن في تصويرهم شهوداً خاضعين وربما ضحايا فعليين لإعادة هيكلة المنطقة لنفسها. وتبدو النداءات لتوحّد العرب فارغة فراغاً رهيباً والكلام عن وحدتهم بات من التاريخ. والحقيقة هي أنّ الحكومات العربيّة تكيّف تكيفاً أنانياً مع هذا التغيير الجديد في السياسة الإقليميّة. فالبعض في انعزال تامّ مثل المغرب وتونس، والبعض الآخر يحلم مثل ليبيا، وبدرجة أقلّ السودان، بالهرب إلى أفريقيا ليريح نفسه من الصداع الذي تسبّبه المنطقة، وبلدان أخرى في شبه الجزيرة العربيّة أو على ضفاف نهر النيل مهووسة بسلسلة صراعاتها بحيث لا يكاد يكفيها الوقت لوضع استراتيجيّة إقليميّة متينة. أمّا العراق واليمن فهما غارقان في مشاكل داخليّة خطيرة ستبقيهما مشغولين في السنين القليلة المقبلة. وللسخرية الكبيرة، أنّ سوريا التي عيّنت نفسها «قلب العروبة النابض» في القرن الماضي، تقود اليوم حملة إعادة تحديد شرق أوسط جديد يكون فيه لإيران وتركيا دور بارز. يمكن أن تجدوا الأمر استراتيجيّة بعيدة الأمد أو انتهازيّة نموذجيّة للدول، وبرأيي هذه الخطوة مزيج من العاملين. أما لبنان فهو طبعاً المثال الأهمّ لمزيج من انفجارات لا ينتهي جرّاء روح المبادرة في القرن الواحد والعشرين والسياسات الطائفيّة في القرن التاسع عشر. والواقع هو أنّ السياسات العربيّة الحاليّة تُظْهِر أنّ الدول العربيّة غارقة في مزيج من ثلاثة عناصر: ارتباط حادّ طفوليّ إلى حدّ ما بسيادة الدولة، وطريقة جديدة لنقل السلطة والموارد بالوراثة من خلال الحكم الملكي والعائلات الجمهورية، والتنافس الكبير بين السلالات الحاكمة والحكومات. والعوامل الثلاثة هذه، هي عوارض ضعف الدولة وتؤدّي إلى الاهتمام بالشؤون الداخليّة اهتماماً دائماً وإهمال السياسة الإقليميّة جزئيّاً أو كليّاً. وبالتالي، ليس من الصدفة أن تعكس جامعة الدول العربيّة بوضوح هذا العجز الذي تفرضه على نفسها عوض أن تكون علاجاً فعّالاً له. لكن لا يجب شمل المجتمعات بوصف واحد، وحتى المجتمعات العربيّة. فإذا نظرنا بتمعّن نجد أن تحت كلّ هذا الانقسام العربي يختبئ قدر كبير من الاندماج الثقافي. فالكتب الأكثر مبيعاً في بيروت ألّفها كتّاب مغربيّون والمغنّون اللبنانيّون معروفون في القاهرة والجزائر. والعرب يشاهدون الشبكات التلفزيونيّة الفضائية ال500 نفسها ومعظمهم يحبذ رجال الدين أنفسهم. من ناحية أخرى، القاعدة هي ظاهرة إقليميّة على غرار غالبية التكتيكات المناهضة لها. وأبداً لم تقسم السياسة العرب بقدر ما تقسمهم اليوم لكنّ الثقافة العربيّة، التي تحرّكها وتعمّمها الوسائل الإعلاميّة الجديدة، لم تجمعهم من قبل بشكل عميق كما هي الحال اليوم. ويمكننا أن نقول إنّ السوق السياسيّة العربيّة منقسمة تماماً، والسوق الاقتصاديّة مندمجة جزئيّاً، والسوق الثقافيّة والفكريّة متكاملة إلى حدّ كبير يفوق السوق الثقافيّة الأوروبيّة حتّى. تجري حاليّاً هندسة عدد كبير من نسخٍ للشرق الأوسط. وعلى رغم صعوبة تحديد أيّ منها ستُعتَمَد في النهاية، نصل إلى خلاصتين. الأولى، هي أنّه لا يمكن بناء شرق أوسط جديد من دون معرفة الشرق الأوسط القديم، والثانية هي أنّه بهدف إعادة تحديد هذا الجزء من العالم علينا تنفيذ هذه المهمّة بالتعاون مع شعوب الشرق الأوسط ومن أجلهم لا ضدّهم ولا عوضاً عنهم. ومع أنّ هاتين الخلاصتين بسيطتان، تجاهلهما الغرب في السنوات الأخيرة، فاتحاً الطريق أمام القوى غير الغربيّة لتثبيت موطئ قدم لها سريع النموّ في المنطقة والأهمّ من ذلك معطياً اللاعبين الإقليميين في الشرق الأوسط الفرصة لمحاولة إعادة تحديد الشرق الأوسط بنفسهم ولمصلحتهم الخاصّة. وبالطبع يمكن إبداء الشك بنوايا اللاعبين الإقليميين النهائيّة أو وسائلهم الحاليّة في إعادة تحديد الجزء الخاصّ بهم من هذا العالم لكن لا يمكن إنكار حقّهم بمحاولة القيام بذلك. * وزير الثقافة اللبناني سابقاً، والنص كلمة ألقاها خلال مؤتمر «النفط والمال» الذي عُقد في لندن أواخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي ونظمته صحيفة «هيرالد تريبيون».