افتتح أمس في القاهرة «الملتقى العربي للقصة القصيرة» في دورته الأولى التي تحمل اسم الكاتب المصري الراحل يحيى الطاهر عبدالله. يشارك في الملتقى الذي يقام في المجلس المصري الأعلى للثقافة، نقاد وكتّاب من ست عشرة دولة عربية، يتحدثون عن «المشهد» القصصي العربي الراهن وعن الأزمة التي تعانيها القصة العربية على مستويات عدة. ويمنح الملتقى في ختام أيامه الأربعة جائزة القصة العربية وقيمتها مئة ألف جنيه (نحو 18 ألف دولار). ويصدر خلال الملتقى كتابان الأول عنوانه «مشهد القصة القصيرة في العالم العربي» والثاني «مختارات قصصية عربية». وقد شاعت أنباء حول امكان فوز القاص السوري زكريا تامر بجائزة الملتقى لكونه مرشحاً لها بقوة. تقدم القصة المصرية في سياقها الراهن اقتراحاً سردياً لافتاً، ينفتح على أفق واعد، طارحاً أسئلته الخاصة، ومحتفظاً لهذا النوع الأدبي بوهجه الخاص. بيد أنها لم تقم قطيعة جمالية مع مسارات القص الآنفة، بل حملت امكانات التواصل معها، فمنذ أن نهضت القصة المصرية على يد يوسف إدريس ويوسف الشاروني وسواهما، وبدت أكثر نضجاً واستيعاباً لتعقدات العصر وتشابكاته، إذا بنفس جديد، مغاير في التشكيل والرؤية يعبّر عنه الستينيون، فكان الدور البارز ليحيى الطاهر عبدالله وعبدالحكيم قاسم وجمال الغيطاني ومحمد البساطي وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان ومحمد حافظ رجب وغيرهم من جيل الستينات من القرن الماضي. غير أن الموجات الجمالية المتتالية سرعان ما حاولت أن تشق طريقها الخاص، بعدما اكتسبت التجربة القصصية إرثاً من التراكم على المسارين الرؤيوي والجمالي، فجاء الخطاب القصصي عند جيل السبعينات متسماً بطابع شاك ومتسائل، يعرّي الواقع ويكشف زيفه، مستفيداً في ذلك من الحضور الواعد للمتلقي في فضاء النص القصصي عند السبعينيين. أنتجت الحقبة التسعينية وما بعدها لحظة سردية بامتياز، وهذا ما يبدو بارزاً في تلك الموجات الجمالية المتتالية التي حظي بها فن القصة. ولا شك في أن السياقات السياسية والثقافية المأزومة والمحتدمة، كان لها دورها الفاعل في هذا التحول، وبدأ يتشكل في الأفق مساران جماليان مميّزان حاضران داخل الكتابة القصصية في التسعينات، يشتبك أولهما مع الواقع ويلتحم به، معبراً من خلاله عن نسق رؤيوي منشغل بالهم العام، واعياً في الآن نفسه ماهية هذا الفن وخصوصيته اللافتة، جاعلاً من المكان القصصي - تحديداً - عالماً قائماً بذاته. وقد رأينا ذلك في كتابات خالد إسماعيل «غرب النيل»، وأمينة زيدان «حدث سراً»، ومحمد إبراهيم طه «الركض في مساحة خضراء»، على اختلاف ما بين هذه النصوص في الحيل التقنية المستخدمة، وزاوية النظر إلى الأشياء. أما الاتجاه الثاني فجاء مفارقاً للواقع، منفصلاً عنه، وبدا أشبه بلعبة لغوية تفسح للمتخيل القصصي مكانه الأثير داخلها، منشغلاً بالتقنية عما عداها. وهذا ما رأيناه مثلاً في مجموعة مصطفى ذكري «تدريبات على الجملة الاعتراضية»، وفي العقد الأول من الألفية الثالثة بدأت تظهر مجموعة من الكتاب يملكون ذائقة مختلفة ورؤية مغايرة للعالم. ورأينا القصة المصرية تنحاز الى واقعها الثري، محاولة اختراق ما دون السطح، متوسلة في ذلك آليات متعددة تختلف باختلاف الطروح الكامنة في النصوص. رأينا محاولة حثيثة لرصد اللحظة العالمية الموّارة، وتجلى ذلك في «خدمات ما بعد البيع» للقاص شريف عبدالمجيد، التي ينحو فيها للقبض على اللحظة الراهنة، بتحولاتها المختلفة، وتعقداتها المتشابكة، وإيقاعاتها المتسارعة عبر مسارات متنوعة، مشيراً في ذلك إلى حالة التداعي القيمي والروحي، وإلى هذا الاستلاب بشقيه المادي والمعنوي من جراء هيمنة الشركات العابرة للقارات، والتوحش الرأسمالي المسيطر على مقدرات العالم. يتواشج الواقعي والمتخيل في نصوص الكتّاب الجدد، وهذا ما نلمحه في مجموعة «الحافة» للقاص علاء أبو زيد، حيث يتخلق فيها الخيال داخل رحم الواقع، ليخرج حاملاً منطقه الخاص، فيقف النص بذلك على تخوم الحلم الفانتازي والواقع المثقل بالإحباطات والألم. نلمح أيضاً ولعاً بالعوالم الأولى لدى الكتاب الجدد، حيث ثمة حضور دال لما أسميه محاولة اكتناه الوجود كما في «لونه أزرق بطريقة محزنة» لمحمد صلاح العزب، أو المس الشفيف لذكريات الطفولة ومخاوفها كما في «رابعهم كلبهم» للقاص هيثم خيري، مع الاحتفاظ بقدر عارم من البكارة التي تسم الشخوص وتحدد زاوية نظرهم إلى الأشياء، وتصوراتهم عن العالم. ثمة نزوع إلى التجريد بصفته ملمحاً يسم القصة لدى الكتاب الجدد، وهذا ما نراه في «شجرة جافة للصلب» للقاص هاني عبدالمريد التي يمارس فيها لعباً مع الأسطورة، بحيث يطرح «أسطورة التكوين» لا عبر رؤية سابقة التجهيز، ولكن من خلال ممارسة رؤيوية وتقنية دالة، يدين من خلالها السلطة الأبوية والممثلة في «بوكا» القاهر لشعبه، والملقب بالعارف الأول، ورأس الحكمة. ظلت هناك محاولات واقعية مكتوبة بحس رومنطيقي بالغ، وقد تجلى ذلك في مجموعتي «البنت التي تمشط شعرها»، و«صوت الكمان» للقاص الطاهر شرقاوي، وتخف وطأة هذا النفس العاطفي في مجموعة «بنت ليل» لمحمد الفخراني على رغم المد الشعري الكامن فيها. ثمة ملمح يسم «اللغة» داخل الكتابة القصصية الجديدة، حيث ينظر إليها لا باعتبارها تقنية رئيسة فحسب، بل بصفتها أيضاً خصيصة أسلوبية مميزة للكتابات الجديدة، والتي لم تعد اللغة فيها غاية «على اعتبار أن الأدب تشكيل جمالي للغة»، بل أضحت وسيلة، ومن ثم لم تعد تبحث عن الجماليات السابقة نفسها، التي ترتكز الى استخدام اللغة بمنحاها الكلاسيكي الأكثر سموقاً، وإنما بدأت تخلق جمالياتها الخاصة من الاشتباك مع الراهن، وتقديم اليومي والمعاش في شكل تفصيلي، يستعيض أحياناً عن شعرية اللغة بجسارتها، وقدرتها على خلخلة البنى السائدة، وتقويض المستقر منها، وتعد مجموعة «تجاوزت المقهى من دون أن يراك أحدهم» للقاص وليد خيري نموذجاً دالاً على ذلك. وإذا كان الإبداع لا يعرف الوصفات الجاهزة، أو الرؤى المعدّة سلفاً، فإن ليس ثمة اقتراح سردي محدد للقصة، أو تصور أحادي لها يدعي هيمنته على راهن القصة المصرية، بل تتشكل الآن تنويعات مختلفة، واقتراحات سردية متنوعة تحاول كلّها أن تقبض على ماهية النوع، واعية به، من دون أن تحيله إلى مقدس، مدركة تحولاته، وخالقة أفقاً خصيباً له.