إذا كان بعضهم بدأ يفقد الأمل في دور الإعلام الذي يتحوّل تدريجاً من سيف ذي حدَّين إلى خنجر بحدٍّ واحد يطعن غالبية الأوقات صميم القيمَ والمبادئ، فلا بدّ له من أن يعيد البحث بتوجيه نظره نحو عدد من البرامج المفيدة التي تعدّل، أو تحاول جاهدة تعديل الميزان، ومن بين تلك الأعمال المفيدة تيليفيلم «مروان» الذي عُرِض هذا الأسبوع على شاشة «أل بي سي» الأرضية. هذا العمل الذي قدّمته وزارة الصحة بدعم من منظّمة الصحة العالمية هو خطوة سبّاقة في مجال التوعية إذ أدركت هذه الوزارة أهمية التلفزيون، وبخاصّة أهمية الدراما فيه، (على أمل أن تعي ذلك وزارة الثقافة أيضاً لدعم هذا القطاع أكثر) فاستفادت من مواهب أشخاص لهم الباع الطويلة في هذا المجال لتقديم عمل يسلّط الضوء على ضرورة اللقاح وخطورة الاستهتار به. «مروان» الذي لعب دوره بقوّة متوقّعة الممثل الموهوب جورج خبّاز استطاع أن يسرق انتباه المشاهدين فتعاطفوا معه ومع حالته. والأكيد أنّ الأمر اخترق أعماق قلوب الأهل، لذا فمن المستبعد أن يجرؤ أحدهم على الاستهتار في مسألة تلقيح ولده. لقد تنبّهت الكاتبة كلوديا مرشليان في هذا السيناريو إلى أمور عدّة يجب التنويه بها، فجمعت بين مختلف المواضيع الحساسة، ولم تغفل معالجة الموضوع الأساسي من زوايا متنوّعة. صحيح أنّ الحبكة الأساسية تدور حول الإعاقة التي تعرّض لها مروان، فأُصيب بشلل الأطفال بسبب إهمال والدته (مع العلم أنّ الوالد بريء ولم يلمه أحد على رغم كونه مسؤولاً بالتساوي مع الأم في هذا الموضوع!)، ولكنّ الكاتبة تنبّهت إلى إمكان أن يشاهد هذا التيليفيلم أحد الأهل الذين استهتروا في تلقيح أطفالهم وأصابهم إحساس الذنب الذي كانت الأم تتخبّط فيه، فركّزت على تلك النقطة أيضاً وأوصلت رسالة مهمة في ضرورة مسامحة الأولاد أهلهم وأهمية مسامحة الأهل أنفسهم. كما ذهبت الكاتبة في معالجتها هذا الموضوع إلى فكرة الهَوَس الذي قد يتحكّم بأفعال المصاب بإعاقةٍ ما خوفاً من أن يتعرّض أولاده للأمر نفسه، وإلى صورة الضحية التي يتبنّاها فيتصوّر أنّه يحقّ له فعل ما يشاء كونه تعرّض لإصابةٍ بسبب ذنب لم يقترفه. وعرّجت مرشليان في كتابتها أيضاً على فكرة الطبيب النفساني الذي يخاف منه أفراد مجتمعنا العربي باعتبار إنّهم «ليسوا مجانين»، وكأنّ الطبيب النفساني وُجِد لمعالجة المجانين! ولم تنسَ الكاتبة التذكير بأهمية الموسيقى التي تهذّب النفس وتضيف بُعداً آخر إلى حياة الإنسان فأدخلت فكرة الموسيقى في مشاهد كثيرة. أمّا ما يمكن أن يؤخَذ على السيناريو والحوار فهو المباشرة في إيصال الرسائل الأساسية، ربّما لأنّ هدف الفيلم الأول هو التوعية. إخراجياً كان العمل خالياً من الأخطاء الكبيرة ولكنّه للأسف كان خالياً أيضاً من الإبداعات الإخراجية التي قد تلفت الانتباه بقوّة، مع التنويه بالمشهد المؤثّر والمضبوط بذكاء عند المواجهة بين مروان وحبيبته ربى ثمّ مع أمّه. استطاع شارل شلالا بإمكانات إنتاجية متواضعة إنجاز فيلمٍ قادر على إيصال الرسالة بأمانة، مع العلم أنّ الإضاءة كان يمكنها أن تلعب دوراً أكثر في اللعبة الدرامية، ولكنّها بالتأكيد كانت ستؤثّر في ميزان اللعبة الإنتاجية أيضاً. لذلك يبدو أنّ شلالا فضّل صبّ نقاط القوّة في مكان آخر غير الإضاءة وحركة الكاميرا، فظهر في المقابل عنصرٌ قوي جداً هو عنصر الموسيقى التي يجيد المخرج الاستفادة منها حتّى النوتة الأخيرة بما أنّه هو الذي يؤلّفها وفقاً لنبض الإخراج والمشهد. أمّا نقطة القوّة الثانية في الفيلم فكانت في الكاستينغ الموفّق الذي كان رافعة أساسية في العمل، وأدى جورج خبّاز دور مروان باحتراف عالٍ جعل المشاهدين يقتنعون بأنّه عاجز عن السير في شكل طبيعي، فاستطاع الجمع بين الناحية الخارجية للدور وبين الناحية الداخلية التي انعكست على وجهه وفي طريقة كلماته وحركاته.أمّا رندا كعدي فكانت بحقٍّ الأمُّ النادمة التي تحاول الهرب من ذنبها الذي يمتثل أمامها في كلّ مرّة ترى فيها ابنها يستعين بعكّازاتٍ ليسير. برناديت حديب تمكّنت من الفصل بين دور المساعِدة العاشقة في البداية وبين دور الزوجة الواعية في ما بعد، فشكّل الثلاثي خبّاز- كعدي- حديب طاقة من الأحاسيس الصادقة التي تلمس القلوب موصلة بعناية عبارة «لقّحوا أطفالكم... لا ينفع الندم». فيفيان أنطونيوس أيضاً كان لها حضور مميّز في هذا العمل فجسّدت الوجه الآخر الذي يهتمّ لمظهر الإنسان بدل التركيز على داخله، وبدت مقنعة في صراعها مع نفسها قبل أن ترفض الحب المعروض عليها. هذا العمل اللافت هو خير دليل على أنّ للدراما المحلية دوراً بارزاً يصبّ في صلب واقعنا وحياتنا اليومية، على أمل ألاّ يكون الأخير من نوعه، وعسى أن يفتح الطريق أمام منطق التيليفيلم الغائب عن شاشاتنا الطامحة إلى مسلسلات تمتدّ بين الثلاثيات والثلاثينيات. «مروان» خطوة موفقة قامت بها وزارة الصحة نرجو أن تتابعها مع وزارات أخرى مثل وزارة البيئة مثلاً لتوعية الناس على مخاطر التلوّث ونتائج الاحتباس الحراري على المدى الطويل.