«العلوم الدينيّة هي نور القلوب. والعلوم الدنيويّة الحديثة، هي نور العقول. بامتزاجهما تتجلّى الحقيقة، وتتهذَّب همَّة الطالب، وتعلو بهذين الجناحين. وبافتراقهما، يتولّد التعصُّب في الأولى، والحيل والشبهات في الثانيّة». هذا الكلام، هو للملا سعيد الكردي الذي يكنّى ب «بديع الزمان النورسي» (1876- 1960) الذي كان ولا يزال، من كبار علماء ودعاة الإصلاح الديني والاجتماعي في العالم الإسلامي في القرن المنصرم. سيرته مملوءة بالعِبر والمآثر والمآسي والأهوال والإصرار والمقاومة. كان مناهضاً للعنف في حلّ مشاكل بني جلدته، وحصولهم على حقوقهم المسلوبة والمهضومة. لذا رفض الاشتراك في انتفاضة الشيخ سعيد بيران، النقشبندي عام 1925 على النظام الأتاتوركي الذي ألغى دولة الخلافة في تركيا، وأحلّ محلَّها النظام العلماني، وتنكّر للشراكة الكرديّة - التركيّة في بناء الدولة. بعد وفاته ودفنه في محافظة أورفا، قامت السلطات التركيَّة، بنبش قبره، ووضع رفاته في صندوق، ورمته من طائرة عسكريّة في البحر المتوسط. وحتّى مكان القبر الرمزي للملا سعيد، لم يعد معروفاً. وعليه، لا قبر قائد انتفاضة 1925، الشيخ سعيد بيران، ولا قبر قائد انتفاضة دريسم عام 1938، سيد رضا، معروف مكانهما، إضافة إلى المكان الذي دفن فيه بديع الزمان النورسي!. كان ملا سعيد الكردي، الذي حفظ أكثر من 80 كتاباً من أمّهات الكتب في الفقه والتراث والفكر الإسلامي عن ظهر قلب، كان يحلم أن يؤسس جامعة في مدينة «وان» الكرديّة، جنوب شرقي تركيا، تكون نسخة عن جامع الأزهر بالقاهرة في الديار الكرديّة. وسافر لأجل ذلك إلى اسطنبول عام 1907، وقدّم طلباً رسمياً للسلطان عبدالحميد لتأسيس جامعة إسلاميَّة باسم «مدرسة الزهراء». لكنّ طلبه قُوبِلَ بالرفض والتجاهل!. وفي كتابه «الدروس الاجتماعيّة»، يخاطب بديع الزمان أكراده، ذاكراً لهم أن أخطر وأعتى ثلاثة أعداء يواجهونهم هم: «الجهل، والفقر، والتشتت والفُرقة». في تركيا، هنالك الكثير من المؤسسات والهيئات والمنظّمات التي تقول أنها تسير على نهج بديع الزمان النورسي، وتسعى لنشر فكره وتعاليمه وكتبه التي لخَّصها النورسي في «رسائل النور». وكلّ مؤسسة أو جهة، تدّعي بأنَّ الأفضل في تمثيل فكر بديع الزمان، والأقدر على نشرها والتعريف بها للعالم!. ومن هذه المؤسّسات، «وقف الزهراء» الذي تأسس عام 1992، على يد عالم الدين الكردي عزالدين يلدرم، الذي كان أحد تلامذة بديع الزمان النورسي. وفي تلك الفترة، كانت تركيا تحت تأثير الانقلاب الابيض الذي جرى في 28 شباط 1997، واستمرّ لغاية 1999. حيث تمّت تصفيّة شيخ الإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان سياسيّاً، بحلّ حزبه «حزب الرفاه الإسلامي»، ومنعه من مزاولة العمل السياسي لخمسة أعوام. قانونيَّاً، «وقف الزهراء» هي جمعيَّة مدنيّة، وظيفتها الاهتمام بشؤون التربيّة والتعليم، والحثّ على السعي نحو الحقيقة والإيمان، وفق نهج بديع الزمان النورسي «سعيد الكردي»، ومقرّها الرئيس في حي آكسراي باسطنبول. لها 75 فرعاً في غالبيّة المحافظات التركيّة، عدا عن أفرعها الموجودة في النواحي والبلدات. وتتبع لها دار «نوبهار» للطباعة والنشر، التي تصدر عنها مجلة «نوبهار» الفصليّة، الصاردة بالكرديَّة باسطنبول، والمعنيّة بشؤون الأدب والثقافة واللغة الكرديَّة. ويبلغ عدد الطلبة الذين يدرسون العلوم الدينيّة في هذه المؤسّسة حوالى 5000 طالب، يحصلون على إجازات فخريّة وحسب، لا تخوِّلهم التوظيف في مؤسسات الدولة، بخاصّة المعنيَّة بالشؤون الدينيَّة. حلم كان بديع الزمان النورسي يحلم بتأسيس جامعة في منطقة «وان»، تقوم بتدريس العلوم الدينيَّة والدنيويَّة باللغات الكرديّة والعربيّة والتركيّة، وصولاً الى هدف لطالما كان خفق له قلب بديع الزمان وهو: «الحريّة للأكراد، والتآخي في العالم الإسلامي، والتصالح بين الأمم والأديان»، كما جاء في كتابيه؛ «مناظرات» و «الخطبة الشاميّة». وعليه، ليس من المبالغة القول: إن بديع الزمان، كان رائد التحاور بين الأديان، قبل أن يسبقه إلى هذا الرأي والموقف أحد. وفي هذا السياق؛ ذكر الباحث في تراث بديع الزمان النورسي، والأستاذ في «وقف الزهراء» نوزت أمينأوغلو (34 سنة) ل «الحياة»: «إنّ الوقف يسعى لتحقيق هذا الحلم». ويضيف أمينأوغلو: «هنالك في تركيا، أربع جهات رئيسة، تدّعي أنّها تتبع نهج بديع الزمان. الأولى: «دار كلمات» للطباعة والنشر، وتضمّ تلاميذه الأتراك. وتركّز جهودها على تسليط الضوء على الجانب المعنوي، وتجنّب الجانب الاجتماعي. ناهيكم عن تجاهلها للبعد القومي الكردي في فكر بديع الزمان. ويقوم في هذه الدار إحسان قاسم صالح بترجمة كتب بديع الزمان للعربيّة. ثانيّاً: دار «يني آسيا» للطباعة والنشر، التي تصدر عنها يوميّة «يني آسيا» منذ 1970، وتضمّ تلاميذ بديع الزمان من الأتراك، المقرّبين من الحزب الديموقراطي الذي كان يرأسه رئيس الوزارء التركي الأسبق عدنان مدنرس (تمّ إعدامه عام 1960). ويسعى هذا التجمّع إلى التركيز على الجانب السياسي والديني، وتجاهل الجانب القومي الكردي في فكره. ثالثاً: المؤسسات التابعة للداعية فتح الله غولان المقيم في أميركا. وهي الأكبر. وتضم امبراطوريّة إعلاميّة واقتصاديّة هي الركيزة الأبرز والداعم والسند لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا. يحاولون الاستفادة من فكره، وتجاهل الجانب القومي. وفي هذا السياق، يركزون على نشر كتبه الجديدة، وتفادي نشر الكتب القديمة التي ذكر فيها بديع الزمان رأيه ومواقفه من هموم الأكراد وشجونهم ومظالمهم ومشاكلهم، وبيّن آليات المعاجلة لها، ك «الدروس الاجتماعيّة»، «ديوان الحرب العرفي»، «مناظرات». هذه الكتب، يتفادون إعادة طبعها. حتّى أن كتاب «الدروس الاجتماعيّة» ممنوعة إعادة طبعه عندهم!. ورابعاً: «وقف الزهراء». وغالبيَّة المنتسبين لها من الأكراد، مع تواجد نسب لا بأس بها من العرب والأتراك». وحول خدمات ووظائف «وقف الزهراء» يقول أمينأوغلو: «نقوم بطبع وتوزيع ونشر كافّة مؤلّفات بديع الزمان، من دون استثناء. والتركيز على إظهار وإبراز ما يتمّ تجاهله في شخصيَّته وتاريخه وفكره وتراثه». هموم حول المشاكل والمصاعب التي تواجه «وقف الزهراء»، يقول نوزت أمينأوغلو: «سابقاً، كنّا نعاني من الاستبداد والقمع المباشر، لدرجة الاغتيال والتصفية، وإغلاق الوقف. ما أجبرنا على محاولة أخذ ترخيص جديد، تحت اسم جمعيّة، لأن كلمة «وقف» ذات بعد إسلامي، خلقت لديهم حساسيّة قانونيّة علمانيَّة. والآن، الجماعات الدينيّة التركيّة، الرسميّة وغير الرسميّة، وحتّى التي تزعم انها على نهج بديع الزمان، غير مرتاحة لأداء «وقف الزهراء»، ولا تتعاطى معنا وفق منطق التآخي الإسلامي، وينظرون لنا بعين قوميّة تركيّة، واقعة تأثير بروباغندا الدولة». ويضيف أمينأوغلو: «تؤدي الأسباب الاقتصاديّة المترديّة في المجتمع الكردي والتركي، دوراً سلبيّاً في تسرُّب بعض طلاّبنا إلى من عنده المال». في حين كشف رئيس «وقف الزهراء» عز الدين أوزبيك ل «الحياة» عن طموح بعيد المدى بقوله: «عدا عن تحقيق حلم الأستاذ في تأسيس «مدرسة الزهراء» في «وان»، وتحقق الحريّة للأكراد والتآخي في العالم الإسلامي والتصالح بين الأمم والأديان، نطمح إلى تحقيق الهدف والحلم المستقبلي للأستاذ بديع الزمان، وهو إقامة اتحاد الجمهوريّات الإسلاميّة، وبينها الأكراد. يعني، أنه كان يطمح إلى تأسيس دولة كرديّة إسلاميّة، تجاور وتآخي شقيقاتها العربيّة والتركيّة والفارسيّة. خلافاً لما يروَّج عن الأستاذ بديع الزمان أنّه كان منسلخاً عن هويته القوميّة. نبذه للعنف، وعدم دعمه لانتفاضة الشيخ سعيد بيران، لا يعني أن الأستاذ تبرَّأ من قوميته، وأن فكره خالٍ من العمق والبعد القومي، بما ينسجم وسماحة وأخلاق ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف». طلاّب وحول سبب اختياره تعلّم ودراسة فكر ونهج بديع الزمان النورسي، يقول الطالب التركي الأصل، يونس ناري، (24 سنة): «السبب الأول، أن الوقف، يقدم لنا فكر بديع الزمان من كافة الجوانب وعلى كافة الاصعدة. وبخاصة الجانب الاجتماعي. ولأن هذا الوقف، يعلمنا أن من حقّ أي شعب أن يتمتّع بكامل حقوقه، من دون ان يكون عائقاً أمام حقوق شعوب أخرى. وهذا الأسلوب، يمكن أن يستفيد كل العالم الإسلامي منه». نوري راماني (28 سنة)، حاصل على إجازة من كليّة علم الاجتماع من جامعة قونيا. تعلمّ اللغة الكرديّة قراءة وكتابة في الوقف. تحدّث الى «الحياة» عن علاقته بالوقف: «تعلّمت من الوقف، حريّة التعبير عن الرأي وعن الهويّة من دون المساس بهويّة الآخر. وتعلّمت الفكر والوعي القومي الكردي هنا. لكن، ليس وعي قومي منغلق جامد». وعن النواقص يقول راماني: «هنالك قصور كبير في التعريف بالوقف في الرأي العام التركي والعربي والعالمي». في حين يضيف الطالب في كلية الصيدلة بجامعة اسطنبول، جكرخوين مدني (24 سنة) انتقادات أخرى للوقف بقوله: «لا يتمّ إدراج أيّة مقررات أخرى في منهاج التدريس، عدا رسائل النور للأستاذ بديع الزمان النورسي، وكأنّهم يختصرون لنا الفكر الإسلامي في فكره!. كما يتمّ تفادي إبداء الموقف الواضح والعملي إزاء المشاكل اليومية السياسيّة المباشرة التي تمسّ نبض الشارع الكردي هنا، بحجّة أن الوقف لا علاقة له بالسياسة!. وهذا ما أراه مناقضاً لفحوى وفكر بيدع الزمان في كتابه؛ الدروس الاجتماعية».