تثير تجربة دار الآداب اللبنانية في معرض «ستة جسور ستّ روايات» الذي استضافه محترف الزاوية في بيروت، مسألة أهمية التلاقي بين الأدب والفنون البصرية والسمعية والتجهيزات الفنية التي تنضوي تحت عنوان الفن المعاصر. ولعل أعمال الفنانين الستّة الذين استوحوا ستّ روايات واستلهموها فنياً تطرح أسئلة جدلية: صار الأدب جزءاً من الفن المعاصر؟ هل يحتاج الى دعم أو سَند من وسائل أخرى أكثر جماهيرية ومرونة تندرج تحت لواء «النيو ميديا»؟ وهذه يمكن تحديدها في التجهيزات الفنية، وأفلام التحريك، والتصوير الفوتوغرافي والرسم وال «فيديوآرت». يهدف المشروع الذي أقامته دار الآداب بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية في إطار «بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009»، الى تطوير النظرة الى الكتاب، بما يتخطى فن الكتابة عبر وسائل جديدة. ويبدو أن المعرض نجح في ذلك، فالأعمال الفنية تستفز فضول المتفرّج وتحمله الى قراءة هذه الروايات المعروفة إذا لم تكن قرأتها. والروايات هي «الحب في المنفى» لبهاء طاهر، و«بريد بيروت» لحنان الشيخ، و «دنيا» لعلوية صبح، و «ثلاثية نيويورك» للأميركي بول أوستر، و «الوجوه البيضاء» لإلياس خوري، و «المرأة العسراء» لبيتر هاندكه، وكلها صادرة عن دار الآداب. يحمل المعرض المتفرّج الى المقارنة بين النص والمشهدية، على مستوى التفاعل والاستلهام. وتجذبه الأعمال الى عملية فكّ رموز، أو عملية بحث قد تكون مضنية أحياناً لتلمس عناصر النص والكلمات في لوحة ما أو في فيلم أو في مجموعة صور. فتصير المشاهد جزءاً من المعرض أيضاً وجزءاً من هذه العلاقة الثلاثية التفاعلية من خلال مقارنته بين ما قرأه وما يشاهده. وسرعان ما يكتشف أن هذه المقارنة قد تظلم العمل المشهدي لأن لكل فنّ لغته وأسلوبه وعناصره، كما لكل فنّ جمهوره. ويستنتج في النهاية أن جمالية المشهد تختلف عن جمالية النص الذي يحدّد هو كقارئ ملامح شخصياته وأشكال أماكنه وجوّه. بينما العمل المشهدي في جزء كبير منه ملموس ويُحدّد أطر الفكرة أو القصة، ويجر المشاهد الى مكان آخر من الرواية أحياناً قد يكون غافلاً عنه. لكن اللغة المشهدية المعاصرة مغرية وديكتاتورية في جذبها، خصوصاً عندما يجتمع فيها أكثر من عنصر، كما في فيلم جنى صالح ورائد الخزن المستوحى من «ثلاثية نيويورك»، وفي لوحة تمارا السامرائي عن «المرأة العسراء». عندما تدخل الى الغرفة الرقم واحد المعتمة حيث تقبع دميتا الفنانة نجاح طاهر في الزاوية، تظن للوهلة الأولى أن العمل بسيط حتى البداهة. ولكن سرعان ما تبدأ النصوص بلغات عربية وأجنبية تظهر كخلفية للدميتين المرهقتين المرتميتين كقتيلتين، تغطي جريدة الجزء الوسط من جسديهما. ينقل المشهد والرسوم المطبوعة على الجريدة المتفرّج الى مجازر صبرا وشاتيلا التي ذكرها بهاء طاهر في روايته «الحب في المنفى». فهاتان الفتاتان بملامحهما الحزينة ترمزان الى قصة الفتاتين اللتين اغتُصبتا وغطى أحدهم عريهما بالجريدة. انها جمالية البساطة التي اتّبعتها الفنانة لإبراز عنصر مهم من الرواية ألا وهو أن الضحية لم تتكلم بعد على رغم الحديث عن قصتها وعذاباتها في الكتب والصحف. ومع ذلك لم يستطع أحد أن يُخبر مرارة الحقيقة، فكلّ ما رُوي من خارج سياق الضحيتين. في الغرفة الرقم اثنين تأخذك الفنانة كارين وهبي في رحلة مصّورة لحبيبين في السبعينات حيث دارت أحداث رواية «بريد بيروت» لحنان الشيخ. اقحمت وهبي نفسها في حميمية شخصين وجدت لهما أربع صور في سوق الأحد الشعبي قبل أربعة أعوام وهما في قلعة بعلبك وفي مطعم قروي. الصور هذه أوحت لها أن الحبيبين كانا على أهبة الشروع في يوم طويل زاخر بالأحداث. فوضعت نفسها في كل الحالات الشعورية التي يمكن أي إنسان أن يختبرها في حرب عنيفة لامتناهية، وأرادت أن تكمل الرحلة. فجاءت الصور على شكل «كارت بوستال» مكتوب على خلفيتها جمل تمثّل حواراً بين «بريد بيروت» عام 1973 وزمن ما قبل الحرب، وخلالها، واليوم. تروي علوية صبح في «دنيا» كف راح الحبيب يفتّش عن حبيبته وعن صورها في النساء اللواتي كان يلتقيهنّ. واستطاعت المصوّرة الفوتوغرافية داليا خميسي التي تركزّ في مشاريعها في الفترة الأخيرة على حقوق النساء في المجتمع اللبناني، أن تُجسّد خير تجسيد هذه الحالة التي يرى الحبيب فيها حبيبته موّزعة في نسوة أخريات، من دون أن يستطيع أن يحظى بها كلها. ففي صورها التي تتناول جسد المرأة من زوايا جديدة غير مبتذلة، تسرد حكايات كل النساء التي وردت في «دنيا». سلسلة الصور الموضوعة داخل أطر من أحجام وأنسجة وتصاميم وألوان مختلفة، مستوحاة هنا من كلمات الخيبة التي أطلقتها نسوة الرواية واصفات الرجال. كأن الصور الملتقطة بحرفية عالية وبعد اجتماعي وجنسي عميق، تصرخ بأصوات النسوة ويتردّد صداها في الغرفة مكان العرض. اختيار داليا لأجزاء مميزة من جسد المرأة قد تكون ثانوية في لغة الإغراء والشهوة المبتذلة، منح صورها بعداً فلسفياً عميقاً. فهي تصوّر مثلاً الوركين أو البطتين أو السيقان أو جانباً من الخصر. قليلة أفلام ال «فيديو آرت» التي تتعدى مدّتها ثلاث دقائق وتستطيع تناول عناصر كثيرة مختلفة ومتداخلة في طريقة عميقة وفنية. الأمر الذي نجحت به جنى صالح ورائد الخازن من خلال مقاربتهما لرواية «ثلاثية نيويورك» للأميركي بول أوستر. ليس المشاهد هنا في حاجة هنا الى قراءة الرواية كي يفهم ماذا يقصد الفنانان في الفيلم. تحكي «أشباح» عن مُخبر خاص اسمه «بلو» (أزرق) تدرّب على يد براون (بني)، يتحرّى عن رجل اسمه «بلاك» (أسود) في شارع «اورينج» (برتقالي) لمصلحة زبون اسمه «وايت» (أبيض). يكتب «بلو» تقارير لوايت لقاء أجر. يُصاب «بلو» بالإحباط ويفقد نفسه كلما خاض في حياة «بلاك». لكن الصورة الوسخة والمخربشة المائلة الى الزرقة، والموسيقى المستخدمة في الخلفية، والأشكال الغرافيكية، كلها توحي بتغيرات أو تبدلات ما. قد تكون تغيرات المزاج والقلق الذي يعتري شخصية الرواية الأساسية المصابة بانفصام. ويأتي اختيار الممثلة أو بالأحرى الراقصة ذات الملامح القاسية الحزينة في الفيلم، موفّقاً بل ذكياً زاد العمل قوّة وعمقاً لدرجة أن المشاهد يشعر أنه يودّ مشاهدته مرّات ليتمكن من الانتباه الى كل التفاصيل الفنية والعناصر الحرفية المستخدمة في الفيلم. أما في الغرفة الرقم خمسة فقد استلهم غسان معاصري عمله القائم على عيدان كثيرة من الكبريت، من أسلوب الكتابة في «الوجوه البيضاء» لالياس خوري. في الغرفة الضيّقة تركن مجموعة من علب الكبريت الفارغة في إحدى الزوايا. وتقبع قبالتها آلاف العيدان المتراصّة على قماشة من النحاس. يُشعل غسان عوداً واحداً فتنتشر النار لتشمل العيدان كلها ثم تنطفئ. حاول غسان أن يكون تجريدياً مستلهماً عمله من السرد في الرواية الذي يبدأ بحدث كبير عام وينتقل الى أحداث متتالية مبنية على حقيقة ما. واختار الكبريت كرمز لعدم السيطرة على الأوضاع، فعندما يشتعل عود واحد تلتهم النار كل ما حولها. والكبريت قد يرمز الى أداة الحرب التي تحرق نفسها، أو الى الجريمة التي ترتكب لمجرّد الإجرام من دون مبرّر أو خلفية. في الغرفة السادسة والأخيرة، نصل الى «المرأة العسراء» التي رسمتها تمارا السامرائي في لوحة معبّرة تحمل فيها وسادة بيضاء، وتهزّ رجلها اليمنى في حركة رتيبة مملّة. استخدمت السامرائي ألواناً هادئة أقرب الى الزهر الفاتح لخلفية اللوحة، وأعطت المرأة الكئيبة ملامح قلقة غير مفهومة، مركّزة على حركة رجلها. العمل الذي يجمع بين التصوير والتحريك، يرمز كثيراً الى تلك المرأة التي قرّرت أن تغيّر حياتها وتترك زوجها لمجرّد أنها ملّت منه ومن علاقتهما. حركة الرجل تُذكّر بمهنة «المرأة العسراء» التي اختار لها الكاتب الألماني بيتر هاندكه أن تكون مترجمة وتطبع نصوصها على الآلة الكاتبة. كأن العمل يبحث عن خلفية قرار الانفصال ونتائجه، أو عن بديل لما يُشعر امرأة هاندكه بالإحباط.