ثمة ميناءان هما «جتلاند» و«سي لاند» للوصول الى جزيرة «سامسوو» samsø، تلك الجزيرة التي تتفاخر بأنها وصلت الى حدود «صفر كربون»، بمعنى أنها تقتصد في نفث غازات التلوّث، الى حدّ أن مصادرها الطبيعية (الأشجار والأعشاب) تعطي من الأوكسجين وتمتص من ثاني أوكسيد الكربون، ما يساوي تبعث به من غازات التلوّث (ثاني أوكسيد الكربون وميثان). ومن البحر، دلف الوفد الصحافي العربي إلى تلك الجزيرة الساحرة. ولم تكن الرحلة بحراً إليها أقل جمالاً، ما عوّض الوفد عن اضطراره للاستيقاظ باكراً كي يسافر ساعتين براً، ثم ساعتين في «فيري» (سفينة تنقل الركاب والسيارات والحافلات) مخرت مياه بحر الشمال المثلجة ورياحه الباردة اللاسعة. وبعد رحلة برّية قصيرة، وصل الوفد الى «أكاديمية سامسو للطاقة» (موقعها الإلكتروني هو energiakademiet.dk، وأما العنوان الالكتروني للجزيرة نفسها فهو samsoeturist.com). وصل حدّ التأثر إيجابياً بالمناظر الخلابة في الجزيرة، الى حدّ إطلاق النكات على الحيوانات التي ترتع بهدوء هائل في تلك الجزيرة، ما يُذكّر بالسمعة الوطيدة للدنمارك في الحليب والألبان والأجبان. وإذ مرّت السيارة بمزرعة صغيرة، بدا أن أبقارها الضخمة الحجم، انقسمت الى مجموعتين، تذكر زميل خبراً عن لجوء مزارعين في الدنمارك الى الموسيقى لزيادة إنتاج الأبقار من الحليب. وعلّق آخر بأن انقسام الأبقار ربما وشى بأن بعضها يميل الى بيتهوفن، في ما تصر الأخريات على موزارت! وتتموضع أكاديمية الطاقة في مبنى تكثر فيه شبابيك الزجاج، للاستفادة من الشمس. وعلى رغم بنائها الخشبي، فإنه مؤتمت كلياً، بحيث يعدّل الكومبيوتر وضع الستائر وقوة دخول الشمس والريح، إضافة الى تشغيل التسخين، كي يحافظ على حرارة معتدلة في داخلها! ولم يجد الشاب ياسبر كييم صعوبة في شرح الفكرة الأساسية للجزيرة، التي باتت تظهر في الإعلام العالمي بانتظام، وخصوصاً المحطات العالمية، باعتبارها علامة بارزة في السياحة البيئة. وخطر للبعض أن لبنان يستطيع أن ينافس في السياحة البيئة، إذا توافرت إدارة سياسية كافية لذلك. (أُنظر: «أيهما أفضل للبنان»). ورافق ياسبر الوفد بسيارة تسير بالكهرباء، من نوع «سيترون». ولم يبالغ في قدراتها. وأوضح أنها تسير أقل من مائة كيلومتر، قبل ان تحتاج الى شحن من الشبكة الكهرباء. هل تأتي تلك الكهرباء كلها من طاقة متجدّدة؟ بدا السؤال مُذكراً بصعوبة البحث عن الطاقة البديلة للنفط، خصوصاً في المواصلات. وبيّن الشاب ياسبر أن بطارية السيارة تضعف تدريجاً مع تكرار الشحن، كحال بطارية الخليوي، ما يجعل سيارته تسير راهناً لمسافة أقل من مئة كيلومتر بكثير. وزار الوفد موقعاً لاستخراج الحرارة من الكتلة الحيوية («بيوماس» Biomass)، التي تشمل أساساً الخشب والقشّ والغاز البيولوجي. وأوضح ياسبر أن المزارعين باتوا يمدون المولّد بالقشّ الذي صار جزءاً من دخلهم. ولم يتردّد أيضاً في الإشارة الى مولّد يعمل بالوقود النفطي، في حال لم تكف طاقتا الكتلة الحيوية والريح، ما بيّن مُجدّداً الحدود العملانية للطاقة البديلة. وفي اللقاء مع هانز كوخ، نائب سكرتير الدولة لشؤون الطاقة، أوضح ان الدنمارك تستعمل طاقة الكتلة الحيوية لتنويع مصادرها من الطاقة، موضحاً ان مجمل ما ينتج منها يغطي عشرة في المئة من حاجات البلاد في الكهرباء. وتأتي تلك الطاقة من 275 محطة لطاقة الكتلة الحيوية (خشب وقشّ وقمامة وغاز حيوي). وتضم البلاد 215 محطة لتوليد الكهرباء من الخشب والقش، و30 من الغاز الحيوي، و30 من القمامة. وجال ياسبر مع الوفد على مشروع لتوربينات الريح منصوبة براً، مع ملاحظة حاجتها لأمتار من الباطون المسلح في أساساتها. وبيّن أن المصدر الأساسي لطاقة الريح في الجزيرة يأتي من مزرعة ريح بحرية. وفي ردهات الأكاديمية، ترافق الوفد العربي مع وفد من سكان الجزيرة. وبيّن ياسبر أن الأكاديمية تستقبل وفوداً متعددة لشرح تجربتها. وظهرت على جدران الأكاديمية رسوم كاريكاتيرية لأطفال من مدرسة إبتدائية. أحد تلك الرسوم أظهر ذكاء كبيراً، إذ أظهر الأرض يلفها حزام غازات التلوث، ويسألها جارها المريخ عن الخطب الذي حلّ بها. وتجيب بأنهم البشر وما يصدرونه من تلوث. فيطمئنها جارها بأن ذلك مرض لا يدوم! وإذ يرسم هذا الكاريكاتير أفقاً مظلماً لمستقبل الأرض، إذا استمر الاستخفاف بالتلوّث، فإنه يشير الى إلمام تلامذة المرحلة الإبتدائية بمكتشفات علم الفلك عن العلاقة بين الحياة على الأرض وبقية الكون. وسرد ياسبر قصة التلوّث مع «سامسو». وروى أنه قبل عشرة سنوات، كسبت «سامسو» الرهان بأن تكون أول جزيرة من دون فائض في الكربون في الدنمارك، برعاية الحكومة. جرى ذلك التحوّل الإيكولوجي بتمويل سخي من المواطنين، إضافة الى ما ضخّته الحكومة من الأموال. ورعت أموال المواطنين مشروع نصب 21 موّلد كهرباء بالريح، قوة كل منها مليون واط. تضخ فائض الطاقة الى الشبكة الوطنية. وأفاد ياسبر أنه على المستوى المحلي في جزيرة «سامسو»، مُنِحت شركات التمديدات الصحية («السِباكة» بالعامية المصرية) حقوق إقامة أدوات الطاقة النظيفة في البيوت وأماكن العمل، مع دعم حكومي مقداره ثلاثون في المئة. استبدلت نظام المواصلات المحلية من الاعتماد على الباصات بتلك التي تعمل بواسطة نُظُم كفية من الطاقة «تيلي باص» tele-bus. أُنشئت فيها «أكاديمية سامسوو للطاقة»، التي تُظهر دراساتها أن انبعاث الملوّثات من الجزيرة يقل عن المعدل الدنماركي بقرابة 20 في المئة. يعمل محرك بالغاز الحيوي (بيوغاز) ليمد البيوت بالحرارة، مُخفضاً أحد أهم الملوّثات وهو روث الحيوانات. ثمة مشروع ريادي صغير عن استخدام الطاقة الشمسية، على رغم قرب المنطقة من القطب الشمالي. وتعقد الجزيرة آمالاً مستقبلاً على طاقة الهيدروجين والسيارات الكهربائية، وتعتمد مفهوم «السياحة البيئية». ويزور قاصدوها «أكاديمية الطاقة» لاكتساب معلومات عن تجربتها بيئياً. وتقدم الدرّاجات الهوائية بكثافة الى السياح، إضافة الى جولات في عربات تقودها الخيل، التي يجمع روثها ليستخدم في مشاريع الطاقة. والمعلوم أن الجزيرة تنتج الأجبان والألبان واللحوم والفاكهة والخضار والتبن. ثمة عيد سنوي للاحتفال بمواسمها الزراعية اسمه «سلو فود فيستفال» تنهض به بلدة ترانبيرغ Tranebjerg التي يفوق عدد سكانها الأربعة آلاف وتبلغ مساحتها 114 كيلومتراً مربعاً.