نظر كثيرون داخل الولاياتالمتحدة وخارجها إلى فوز باراك أوباما في انتخابات الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 على المرشح الجمهوري المفضل من المحافظين الجدد جون ماكين، على رغم محاولاته لابتعاد من أفكارهم وسياساتهم طوال حملته الانتخابية العام الماضي، على أنه بداية انحسار الفكر المحافظ الجديد، وانتهاء تأثير المحافظين الجدد، وموتهم فكرياً بعد ثماني سنوات - فترتي حكم بوش الابن - في البيت الأبيض لم تحقق الأهداف الاستراتيجية الأميركية، بل أضرت بها على الصعد كافة، ناهيك عن تسببها في تراجع نفوذ الولاياتالمتحدة وقوتها على المسرح الدولي. وذهب بعضهم إلى القول إن المحافظين الجدد سيعيشون أسوأ أربع سنوات لهم، هي فترة حكم «أوباما»، لتبنيه سياسات خارجية وداخلية تتعارض مع أيديولوجية المحافظين الجدد. فعلى الصعيد الخارجي يدعو أوباما منذ حملته الانتخابية إلى الانسحاب الأميركي من العراق، والحوار مع إيران في شأن برنامجها النووي وإقامة علاقات طبيعية مع طهران، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول من أجل دفعها لتبني الديموقراطية، وإظهار رغبة - في أول أيامه في البيت الأبيض - لتبني نهج أكثر تشدداً مع حكومة بنيامين نتانياهو الاسرائيلية اليمينية في ما يخص قضية المستوطنات غير الشرعية. ومنذ فوز أوباما برئاسة الولاياتالمتحدة، وحتى قبل تسلّمه مهام منصبه السياسي رسمياً والأوساط الأكاديمية والصحافية والإعلامية الأميركية تنشغل بتساؤل رئيس مفاده: هل الإخفاق الأميركي في كثير من ملفات السياسة الخارجية القائمة على أفكار المحافظين الجدد سيكون بداية انحسار الفكر المحافظ الجديد، وانتهاء تأثيره بانتهاء فترتي الرئيس بوش ووصول رئيس ديموقراطي إلى المكتب البيضاوي يعتمد سياسات مغايرة لأفكاره، أم أنه على رغم تلك التحديات التي يواجهها على المستويين الفكري والتطبيقي، سيظل فكرهم فاعلاً ومؤثراً في الإدارات الأميركية المقبلة؟ في حقيقة الأمر، لم يكن عام 2008 بداية تراجع تأثير المحافظين الجدد في السياسة الأميركية، ولكن هذا التراجع بدأ مع إدارة بوش الثانية متمثلاً في استقالات أقطاب المحافظين الجدد الذين عيّنهم بوش في فترته الأولى. وتأكد هذا التراجع بعد فقدان الحزب الجمهوري الأكثرية في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 بعد سيطرة دامت اثني عشر عاماً، وكذلك بعض التغييرات في سياسات إدارة بوش الثانية، لا سيما في عاميها الأخيرين تجاه قضايا منطقة الشرق، واتجاهها إلى التعاون الدولي المتعدد الأطراف. وعلى رغم أن عام 2008 كان أكثر تأكيداً لإخفاقات المحافظين الجدد وتراجعهم على الساحة السياسية الأميركية، لفوز إدارة ديموقراطية جديدة ذات مقاربة تختلف عن مقاربة المحافظين الجدد للسياسة الخارجية الأميركية، وغياب وجودهم في المستويات العليا التنفيذية في الإدارة الجديدة، فضلاً عن سيطرة الديموقراطيين على مجلسي الكونغرس، إلا أن هذا لا يُعد مؤشراً على انتهاء تأثير المحافظين الجدد أو موتهم فكرياً وغيابهم عن الساحة السياسية الأميركية، وذلك لجملة من الأسباب، منها: أولاً: إن التيار المحافظ الجديد بحسب أحد أقطابه، تشارلز كروتهمز، ليس حركة سياسية بالمعنى المعروف تمتلك مؤيدين على المستوى الجماهيري، لكنه في حقيقة الأمر تيار وتوجه لرؤية السياسات الأميركية بأسلوب معين. لذا، فإن المحافظين الجدد لا يشكلون قوة سياسة في حد ذاتها بقدر استعانتهم بالأحوال السياسية التي هيأت لهم القدرة على التأثير ولعب دور في السياسة الأميركية. فتأثيرهم يقوى ويضعف وفقاً للأحوال الداخلية وطبيعة المصالح والتحديات التي تواجهها الولاياتالمتحدة. فقبل أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 لم يكن لهم تأثيرٌ يذكر في السياسة الأميركية على الصعيد الخارجي. ولكن تصاعد نفوذهم ارتبط ارتباطاً أساسياً بقدرة قياداتهم على استثمار تلك الأحداث ووصول الرئيس بوش وتبنيه جزءاً كبيراً من أفكارهم وأجندتهم. ثانياً: للمحافظين الجدد مؤسساتهم البحثية الفاعلة على الساحة السياسية الأميركية كمعهد «أميركان إنتريرايز»، مؤسسة التراث «هيرتيدج، المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي، مركز السياسة الأمنية، معهد هدسون ومشروع القرن الأميركي الجديد. وبعد فوز أوباما في الانتخابات الرئاسية الأميركية أنشأ مؤسسا مشروع القرن الأميركي الجديد روبرت كاغان ووليام كريستول مع دان سينور الناطق السابق باسم سلطة التحالف الموقتة في العراق، مؤسسة جديدة باسم «مبادرة السياسة الخارجية» والتي نظر إليها على أنها بداية تطوير أفكار المحافظين الجدد مع تولي إدارة جديدة تتبنى أفكاراً مغايرة على غرار «مشروع القرن الأميركي» الذي أنشئ مع فوز بيل كلينتون بفترة رئاسية ثانية عام 1996. وما يعزز رواج أفكارهم أن لهم أيضاً صحفهم التي يسيطرون عليها والمعبّرة عن آرائهم مثل مجلة «كومنتري»، ومجلة «ناشيونال ريفيو»، ومجلة «ويكلي ستاندارد»، و «نيو ريبابليك»، و «ناشيونال إنتريست»، و «بابليك إنتريست»، وغيرها. كما يكتبون دورياً في ثلاث من أكبر الجرائد الأميركية، حيث يكتب ماكس باوت لصحيفة «لوس أنجليس تايمز» ويكتب ديفيد بروكس ل «نيويورك تايمز» ويكتب روبرت كاغان وتشارلز كروتهمز ل «واشنطن بوست»، فضلاً عن سيطرتهم على مقالات الرأي في صحيفة «وول ستريت جورنال». وينشر كثير من أقطابهم في مجلة «الشؤون الخارجية» المتخصصة، ناهيك عن ظهورهم المتكرر في وسائل الإعلام الأميركية والإذاعة. هذا الانتشار يمكنهم من التأثير في الرأي العام الأميركي والمسؤولين ونشر أفكارهم وتوجهاتهم وطرحها بموازاة آراء التيارات الأميركية الأخرى. ثالثاً: كان المحافظون الجدد من الذكاء بحيث إذا خرج مسؤول من منصب قيادي مهم خلال فترة بوش الابن، فإنهم كانوا يزرعون عناصر من كوادرهم، خصوصاً من متوسطي السن، في تلك الأماكن، مراهنين على المستقبل، أي على تصعيد كوادرهم إلى المناصب القيادية في المواقع التي يوجدون فيها حالياً. وبالتالي، تولي مقاليد الأمور في المرحلة المقبلة بحيث تكون القيادة السياسية في أمس الحاجة إليهم لتيسير الأمور. ومن ثم تعود القيادة لهم مرة أخرى، ويحافظون على نفوذهم حتى في الفترة التي لا يمارسون فيها الحكم مباشرة. كما يمكنهم من خلال ذلك احتواء أي محاولات من الإدارات التي لا تتوافق معهم للتخلص من آثارهم في السياسات الأميركية. رابعاً: إن أفكار المحافظين الجدد تنتشر عبر طيف الحياة السياسية الأميركية، وداخل الحزب الديموقراطي - حزب أوباما - بين الجناح الديموقراطي الذي يطلق عليه «الديموقراطيون الجدد» أو «الديموقراطيون المحافظون الجدد» وهو جناح يتبنى أفكاراً قريبة من أفكار المحافظين الجدد مثل الدعوة إلى زيادة القوات في أفغانستان ومعارضة الانفتاح الأميركي والحوار مع إيران، ومعارضة فتح تحقيقات في إساءات وانتهاكات إدارة بوش الابن لحقوق الإنسان في حربها على الإرهاب. والكثير منهم قريب من أقرانهم في الحزب الجمهوري (معقل الفكر المحافظ). كثير من متبني أفكارهم أضحوا مسؤولين كباراً في إدارة أوباما مثل وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي تصف نفسها بأنها «صقر عسكري» ونائب الرئيس «جوزيف بايدن» والسفيرة الأميركية في الأممالمتحدة سوزان رايس، فهم يدعون، على سبيل المثال إلى ضرب السودان عسكرياً بدلاً من التركيز على الحل الديبلوماسي، ويدعون إلى أكبر حشد لمعارضة حكومة البشير. ناهيك عن دعوة بايدن لتقسيم العراق إلى ثلاث دول منفصلة. إضافة إلى دنيس روس وريتشارد هولبروك اللذين أنشآ مجموعة «متحدون ضد إيران النووية». لم ينته تأثير المحافظين الجدد ولم يموتوا فكرياً مع مجيء أوباما إلى البيت الأبيض، لكن تأثيرهم يقل مقارنة بالسنوات الأولى للرئيس بوش الابن في البيت الأبيض، مستقبلهم مرتبط بجملة من العوامل المتداخلة والمتشابكة، والتي ترتبط برد فعل المحافظين الجدد إزاء التطورات التي تشهدها الساحة الأميركية على الصعيدين الداخلي والخارجي، وتعامل التيارات الفكرية والسياسة الأميركية معهم في المستقبل، ومدى استمرار قوة تحالفاتهم القائمة حالياً وتماسكها. وأخيراً مدى إمكان مراجعتهم لأطروحاتهم الفكرية وأهدافهم السياسية واستراتيجياتهم للاستفادة من دروس الماضي. * محرر «تقرير واشنطن»، أحد مشاريع معهد الأمن العالمي.