للمسرح فروع لا تزال غائبة عن تجربة الخشبة في العالم العربي. رأينا خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي ازدهار التجريب في لبنان ومصر وتونس والعراق عبر اختبارات متفاوتة في النوعية، كان التمثيل محورها بناء على نص أو فكرة تتطور من دون مؤلف. وعلى رغم أسفارهم وفضولهم قلما طرق مسرحيونا باب الارتجال بقبضة واثقة خارج التنشئة الدرامية حيث يلعب الارتجال دوراً أساسياً في التمارين المسرحية. غني عن القول أن وجود الرقابة في العالم العربي بلا استثناء يعني تطويق التجربة العفوية في المسرح. ولكن إن كنت قادراً على ركوب المخاطر في سبيل كسر ذلك الطوق فعليك بزيارة «روف 68» في منطقة فسّوح - الأشرفية (شرق بيروت) حيث ستواجه بعض التيه قبل أن تعثر على المكان، فأنت في بيروت، لؤلؤة المتوسط، حيث لا أسماء للشوارع ولا أرقام للبيوت... خذ المفرق الأخير من «الرينغ» الى اليمين واسأل عن محلات «زهّار» ثم سر رافع الرأس فترى سطحاً مدهوناً بعنوان «روف 68». قف. خذ نفساً عميقاً واستعد لتسلّق ستة طوابق لولبية من الطراز الكولونيالي الى أن يتلقفك فريق «الروف» بكوب عصير لعله يقيك فقدان الأنفاس. ماذا في «روف 68»؟ «ارتجال مسرحي تفعالي» يجيب المخرج لوسيان بورجيلي ويدعوك الى المشاركة في «المسرحية» من طريق مساهمتك في اقتراح فكرتين طريفتين تضعهما في علبة مخصصة للأفكار، قبل أن تنضم الى جمهور صغير على شرفة زواياها مضاءة بثلاثة سواطع كهربائية، يتوسطها بساط عليه أدوات متفرقة يجمعها المخرج من الجمهور لتكون روافد تحفيزية للمشهد المقبل. يقود المشهد ممثل ذو قدرة مدهشة على الارتجال والابتكار وسرعة البديهة يدعى رئيف خليفة. نستطيع موضعته في رتبة الراوي. لكنه يتلبس أيضاً عدداً من الشخصيات المتبدلة باستمرار ويفرز أقوالاً وطرائف تنم عن إلمام واسع بثقافة العامة ولغة الشارع. وهو من جهة أخرى مدرب على قيادة المشهد الدرامي الى قفلته المناسبة. يقول رئيف خليفة: «ما نقوم به الليلة لن يتكرر مرة أخرى حتى لو اخترنا الثيمة نفسها، فعناصر الأداء مرهونة باللحظة. واللحظة إذ تعبر لا تعود. لذلك ترانا نؤمن حكماً بقوة المصادفة». للمصادفة قوتها بلا شك. وبناءً على هذه القوة نشأ في الغرب فن يدعى «ثياتر سبورتس» أو الرياضات المسرحية التي انطلقت في كندا منذ حوالى نصف قرن، وامتدت الى الولاياتالمتحدة وأستراليا وهولندا وغيرها. مع الوقت، ترسخت قواعد ومفاهيم محددة لهذه الرياضة، يتبعها الرواد والمدرسون والممثلون وصولاً الى مباريات موسمية تنتهي عادة بجوائز قيمة للفائزين. ففي سيدني مثلاً مباراة تشمل الولايات الخمس، يحضرها آلاف المتفرجين، تتشكل لجنة تحكيمها من خيرة رجال المسرح ونسائه، وتنقل فصولها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة بما يليق من حرارة وحماسة. يتدرب الممثلون في «ثياتر سبورتس» على استيعاب جرعات مكثفة من الثقافة الشاملة والنصوص المسرحية واللياقة البدنية وتقنيات تنشيط المخيلة والحدس والبديهة. فإذا بالانطلاق من ثيمة مجردة يؤدي الى بناء مسرحي متكامل عبر تصعيد الارتجال وتخصيب اللحظة الدرامية. وتبرز هنا خلفيات التعليم والتثقيف والادراك والوعي الاجتماعي والإنساني لدى المتبارين، لكون الارتجال نابعاً مما يختزن في ذواتهم بلا تحضير أو رتوش. وانطلاقاً من تقنيات «ثياتر سبورتس» وضعت مجموعة «روف 68» عملها الراهن بعنوان «متلي متلك». عودة الى الروف: مجرد فكرة وضعها أحد الحاضرين في صندوق الأفكار مفادها أنه رأى رجلاً يركض في الشارع وعلى كتفيه رأس غير رأسه الطبيعي. تلاها لوسيان فركض رئيف كأنه بلا رأس واختطف متفرجة من الجمهور وانطلق بينهما حوار تخطى الرأس المقطوع والرأس المزعوم الى شؤون وشجون مما يعيشه الشباب هذه الأيام. السليقة تلعب دورها وكيمياء التواصل المباغت يفرز مادة حية مليئة بمكنونات النفس ومعارفها وآفاقها. واللافت هنا أن أفراد الجمهور أتوا مستعدين للاشتراك في المشهد بلا تردد وبصرف النظر عما قد يتعرضون له من «بهدلة»، فلسان رئيف سليط لا يرحم! شاركت مجموعة «روف 68» في أعمال ومهرجانات مسرحية عدة كان آخرها بداية أيلول (سبتمبر) الماضي خلال مهرجان المسرحي التجريبي في الفريكة حيث جرى توريط الجمهور في مباراة ارتجالية كانت الأولى من نوعها في لبنان. وبعد عودتهم من المساهمة في مهرجان «ثياتر سبورتس» في أمستردام بداية العام الحالي زارهم أخيراً فريق من الممثلين الهولنديين المتخصصين بتدريب فن الارتجال المسرحي ونظموا محترف عملٍ مع المجموعة. ويقول لوسيان بورجيلي إن الهدف الأول الأهم من وراء تنشيط المسرح الارتجالي هو تخطي زمن الرقابة وقيودها والإفساح في المجال للمواهب الواعدة بتفجير طاقاتها واجتذاب الجمهور الى التفاعل الثقافي من دون قيد أو شرط. وتستعد المجموعة للمشاركة في إنتاج جديد في وسط بيروت خلال كانون الثاني (يناير) المقبل.