خير دليل على ارتباط الفن بالعيش اليومي، هو العروض التي قُدّمت في آب (أغسطس) الماضي في أحد أكبر المهرجانات الفنية السنوية في العالم وهو مهرجان مدينة أدنبره البريطانية. وشاركت شخصياً في المهرجان بعرض فردي بعنوان «FUZZY» أديته بمشاركة شخص واحد فقط من الجمهور، سردت فيه للمشاهد حياتي الخاصة وطلبت منه اسداء النصائح لي. وهذا نوع من فنون العرض يسمى حميميّاً وهو يتطلب فعل لقاء بين الفنان والجمهور. لم أكن أتوقع أن ينضم الكثير من الأعمال المشاركة في المهرجان هذه السنة الى النوع عينه من العروض الحميمية، وان كانت متنوعة في المضمون. الى أن قرأت مقالاً للين غارديان الناقدة الفنية في صحيفة «ذي غارديان» تسأل عن هذه الظاهرة التي «كسبت قلوب المشاهدين» هذا الصيف وان لم تكن حديثة جداً. وبالفعل ضجّت المدينة بأحاديث عن تجارب «غريبة» في بعض العروض. مثلاً يدعو فنان المشاهدين ليناموا بقربه في السرير، وآخر يغسل أقدام مشاهديه، وأخرى تبكي في حضن أحد الحاضرين. ولم يكن الفنانون وحدهم من يتصرفون بغرابة، بل وصلت حدّة التفاعل مع هذه العروض الى درجة جعلت مُشاهدة تأثرت كثيراً بعرض «انترنال» الذي ربح جائزة المهرجان، تُبدّل في مظهرها كل يوم لتشارك في العرض من جديد. وحين اكتشف أمرها اعترفت بأنها تعيش وحيدة منذ زمن، ولم تتحدث بانفتاح مع شخص غريب أبداً مثلما فعلت مع الممثل في عرض «انترنال»، ولذا أرادت أن تعود كل يوم. أما أنا فشعرت بنصيبي من التجربة، اذ ان واحداً من المشاهدين الذين شاركوا في عرضي في اليوم الأول عاد في اليوم التالي، وترك لي هدية معبّرة مع رسالة، وشعرت بصداقة تربطني بكل من شاهدني. وفي اليوم الأخير التقيت صدفةً بشخص كان شاهد عرضي، وتلقائياً اقترب مني وأخذ يحدثني بصدق لافت عن ما سماه ب «تجربتنا معاً». وقال أيضاً إنه يشعر بأنه يعرفني جيداً على رغم أنني لم أكن حتى أعرف اسمه. تعتبر الصحافية لين غاردين أن ظاهرة هذه العروض تعود لما تتطلبه من جرأة من قبل الفنانين والجمهور سويةً وتحويل علاقة الاثنين الى علاقة متساوية. لكنها نسيت أن تشير الى أن هذه العروض لا بد من أنها تكمّل ما ينقصها الشارع البريطاني وهي الألفة الاجتماعية والانفتاح على الآخر وترك انعزالية سكان المدن الكبرى ولو لنصف ساعة خارج مكان العرض. وهذا دليل حي وصادق لفن يحاول إخبارنا عن ما يعانيه المجتمع. وهناك كثيرون ربطوا بين فن العرض الحي والحالة الاجتماعية التي تحيطه. وظهرت تحليلات «سوسيولوجية» كثيرة عن أسباب جعلت اليونانيين يخرجون الى الساحات للمشاركة في نشأة ما نعرفه اليوم بالمسرح. في المقابل هناك من يعتبر أن الفنون هي عامةً من الكماليات ولا تقدم أو تؤخر في فهم كينونة المجتمعات وتطوراتها. فالدول العربية على سبيل المثال لم تنظر يوماً الى المسرح كنافذة للوعي الاجتماعي والسياسي ولم تمنحه دعماً ملحوظاً على خلاف ما يقدَم اليوم للسينما من مهرجانات. يُحكى أيضاً عن بيروت كتجربة فريدة من نوعها ويخص بالذكر مجموعة من الفنانين الذين ينتمون الى ما بعد الحداثة، وهم مسيّسون ومستقلون عن غير قصد أي محكومون بعامل الجغرافيا وعدم وراثتهم فنوناً كلاسيكية أو انتاجات حكومية. ويعتبر المجتمع الفني الدولي بيروت مكاناً يحوي على الكثير من الأعمال المعاصرة المهمَة لشدة رغبة هؤلاء الفنانين بالخلق على رغم الصعوبات الاجتماعية والسياسية التي تلحق بهم. لم أرد أن أصدق أنَ الحاجة تجعل العمل الفني جيداً. لذا اخترت كفنانة مدينة لندن مقرّاً لي، حيث يعيش الفن مع المدينة في تلاحم وتقارب أزليين. ولكن نظرة واحدة على فناني اليابان ما بعد كارثة هيروشيما مثل هيجيكاتا تاتسومي وأونو كازو، أو على بعض فناني الاتحاد السوفياتي مثل تادوز كانتور وأندري تاركوفسكي، تجعلني أتساءل عن علاقة الفن بالأمكنة وعن كون هذه الأعمال الفنية وسيلة تعبير مباشرة عمّا يعيشه المجتمع في الفترة الزمنية التي ولدت فيها؟ الواقع أن الأجوبة والأدلة موجودة حتى في مجتمع يتباهى بعلاقة مثالية بين الدولة والفنانين كالمجتمع البريطاني، اذ تخصص الدولة موازنة سنوية للفن وتسلمها للجنة مستقلة لدراسة طلبات الفنانين مباشرةً وتوزيع المال عليهم. وهذه علاقة مختلفة جداً عن علاقة دول كبرى أخرى بالانتاج الفني، ولا سيما في فرنسا وأميركا.