تنظر إلى البحر وهو يمتد أزرق أخضر أبيض. تسترجع كل ما كتب على شرفه، تستعيد القصائد والروايات التي حملت هديره، وروائح أعشابه. تكتشف أن أدبنا العربي ظل، في الأغلب الأعم، أدباً ترابياً، مشدوداً الى اليابسة. نصوص قليلة التفتت الى هذه الحديقة المائية، واحتفلت بها. تتذكر من روايات البحر روايات حنا مينة، تسترجع العلائق التي نسجها بين فتوة التراب وأنوثة الماء، تستحضر صورة الشاطئ وقد تحول، في رواياته، الى سريرٍ للحب، وصورة المراكب وقد باتت أراجيح للحلم. لقد أحببت روايات هذا الكاتب لأنها كانت من الروايات العربية القليلة المضمخة بروائح البحر، المفعمة بعطور النساء. تتساءل لم النصوص المحتفلة بالبحر قليلة في أدبنا مع أن وطننا العربي مسيّج بالماء من أقصاه الى أقصاه. هل هو الخوف القديم من هذا الوحش المائي الذي تهيبه الأسلاف فتحدثوا عنه حديث المتوجس؟ تستدرك قائلاً: لكن أدبنا القديم قد نحت واحداً من أهم الرموز المائية في تاريخ الثقافة الإنسانية هو رمز السندباد. هذه الشخصية جاءت، في ألف ليلةٍ وليلةٍ، صورةً للبطل المفتون بالبحر يتمحل الأسباب للدخول إليه منها «السفر من أجل مصاحبة الأجناس والبيع والمكاسب» و«الفرجة في البلاد وعشرة التجار وسماع الأخبار» ومنها ما «يقاسيه من الطمع»... لكنك لم تصدق، تلك الحجج، فهي، في نظرك، مجرد ذرائع لتبرير فتنته بالماء. في بدء كل حكايةٍ يتبدى هذا التاجر آمناً مستقراً، لكن ما إن يبصر البحر حتى يعاوده الحنين إلى الماء، فيركبه ويواجه أهواله الكثيرة ثم يعود إلى الأرض من جديد ليتركها بعد أيامٍ مستجيباً لنفسه الأمارة بالرحيل: تلك هي دورة حياته: انتقال مستمر بين البحر واليابسة بين الماء والتراب، والأمن والخوف والحل والترحال لهذا شبهه أندرى ميكال بالجزيرة التي هي وسط بين الماء واليابسة. يقول هذا الكاتب الفرنسي «بعد كل مغامرةٍ يعود السندباد إلى عالمه الأول فلا يجد في الدار من يسعده لقياه سوى السندباد الحمال الذي يمثل في حقيقة الأمر ماضيه الذي يفضي إليه بذات نفسه فليست هناك أسرار يخفيها السندباد عن السندباد، أنهما وجهان لشخصٍ واحدٍ، أو شخصية جمعية يربطهما الاسم وتفصل بينهما الغربة». هذا هو البحر «بعمره الطويل وأخاديده الكثيرة» على حد عبارة سان جون بيرس: تتذكر ما قرأت عنه في الآداب الأجنبية، تستحضر «الأوديسا» وشخصية «أوليس» التي منعته الإلهة «كاليبسو» من مغادرة الجزيرة سبع سنين. وفي غيابه يتنافس الأمراء على الحظوة لدى زوجته «بنيلوب». لكن حبيبة «أوليس» ظلت تتعلل بضرورة استكمال نسج كفنٍ لوالد زوجها. غير أنها كانت تنقض ليلاً غزلها الذي نسجته نهاراً. هذا هو البحر «بحر الربابنة الشيوخ والمحاسبين وأساتذة العدد» كما يقول سان جون بيرس، يمتد أزرق أسود. تتذكر «الشيخ والبحر» و «أناشيد مالدرور» وتتوقف خاصة عند «موبي ديك» الرواية/ الملحمة التي تصور صراع البطل مع الحوت يريد الانتقام منه. تبدأ الرواية بهذه الفقرة الرائعة «كلما أحسست بالتجهم، وأحسست في روحي بشيءٍ من رطوبة تشرين، كلما وجدت نفسي أقف وقفة المأخوذ أمام دكان التوابيت وأشيع كل جنازةٍ صادفتها في الطريق... كلما سيطر علي الشعور بالمرة السوداء حتى أصبحت بحاجةٍ إلى وازعٍ أخلاقي رادعٍ يحول بيني وبين الضرب في الشوارع وتسديد اللكمات المحكمة إلى رؤوس السابلة... كلما كنت في مثل تلك الأحوال أحسست أنه قد آن لي أن أركب البحر بأقصى ما أستطيعه من سرعةٍ». هذا هو البحر عزاء المحزونين، وملاذ الأفاقين والمغامرين، وقادح مواهب الكتاب والشعراء... البحر الذي ينبسط أمامك أبيض، أزرق، أسود. * شاعر تونسي