تقدر الدراسات المختلفة مجموع المهاجرين العرب الذين يتركزون في الولاياتالمتحدة وأوروبا بنحو خمسة وعشرين مليون عربي، ومن بينهم أكاديميون وشعراء ومفكرون كبار، فضلاً عن كفاءات وخبرات فنية وعلمية عالية حصلت على أرفع شهادات وجوائز دولية مثل جائزة نوبل في الكيمياء على سبيل المثال لا الحصر. وفي هذا السياق نسلّط الضوء على أوضاع الجالية الفلسطينية في الولاياتالمتحدة كنموذج لهجرة العقول والكفاءات العربية، حيث تمثل الولاياتالمتحدة مركز استقطاب للملكات العلمية والأدمغة المتعلمة الفلسطينية بوتيرة عالية لا يتناسب ومجموع الجالية حالياً، فمن بين مجموع الجالية المقدر بنحو مئتين وخمسين ألف فلسطيني، ثمة عشرة في المئة من حملة الشهادات الجامعية المحترفين والتقنيين، والأطباء، والمهندسين، والمحامين، والمعلمين، وأساتذة الجامعات مثل: المرحوم البروفسور إدوارد سعيد، والمرحوم الدكتور إبراهيم أبو لغد، وكذلك المرحوم الدكتور هشام شرابي وغيرهم، ناهيك عن الصيادلة والفنانين، وقد شكّلوا في الوقت نفسه ستة وعشرين في المئة من إجمالي القوة العاملة الفلسطينية في أميركا. ويذكر أن نسبة حملة الشهادات الجامعية بين الفلسطينيين بشكل عام تراوح بين ثلاثة وخمسة في المئة بين الفئات العمرية التي تجاوزت الثلاثين عاماً من العمر، أكثريتهم في المنافي، في أوروبا والولاياتالمتحدة ومناطق الجذب الاقتصادي في دول الخليج العربي. ومن المؤشرات الأخرى للقوة العاملة الفلسطينية في أميركا، أن ثمانية في المئة منها يعمل في مهنة الكتبة، أي ماسكو الدفاتر، والسكرتيرات، وضاربو الآلات الكاتبة، وسعاة البريد وجباة الضرائب وأعمال أخرى تنضوي تحت المهنة المذكورة، في حين تشكل شريحة البائعين المتجولين، والدلالين، وباعة بوليصات التأمين والأعمال الأخرى ستة في المئة من إجمالي قوة العمل الفلسطينية في الولاياتالمتحدة. وبذلك تصل نسبة المصنفين كبرجوازية صغيرة إلى أربعين في المئة من إجمالي قوة العمل الفلسطينية، هناك، في حين لا تتعدى نسبة شرائح البرجوازية المتوسطة الريفية اثنين ونصف في المئة، والتجارية أربعة عشر في المئة، أي أن نسبة تلك الشرائح تعادل نحو سبعة عشر في المئة من إجمالي قوة العمل الفلسطينية وتضم تلك الشرائح كما هو معروف، الفلاحين الملاك، أو المدراء الزراعيين، وكذلك ملاكي المؤسسات التجارية، والعقارات، والمصدرين، وباعة المنتجات الزراعية أو مدراء الشركات بكاملها، أو أقسام منها، ووكلاء الشركات الأجنبية وموظفي الدولة والإدارة العامة وأعمال أخرى تصنّف ضمن الشرائح البرجوازية المتوسطة في مقابل ذلك فإن شريحة العمال، بشقيها من مشغلي الآلات وعمال المصانع شكّلت نحو أربعة وأربعين في المئة من حجم القوة العاملة الفلسطينية خلال السنوات الماضية. ويتضح أن أربعة وثمانين في المئة من إجمالي قوة العمل الفلسطينية في الولاياتالمتحدة هي من البرجوازية الصغيرة والعمال، ومرد ذلك الى أن الجزء الأكبر من المهاجرين الفلسطينيين الى الولاياتالمتحدة، خصوصاً خلال الأعوام التي تلت احتلال إسرائيل للضفة الغربية والقطاع في عام 1967، كانوا من الفئات الكادحة لحظة الهجرة، وقد هاجروا بهدف التخلص من وطأة الضغط الاقتصادي الإسرائيلي والسياسات التعسفية الأخرى، وبهدف الحصول على فرص عمل مفقودة في وطنهم الذي يحتوي قاعدة اقتصادية شبه مشلولة خلال احتلال مديد إضافة الى التوزيع المهني للقوة العاملة الفلسطينية الذي يعكس الى حد كبير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للجالية الفلسطينية في أميركا مقارنة بباقي الجاليات. ويتصف النشاط الاقتصادي بين الجالية الفلسطينية في أميركا بالتدني، وينعكس ذلك على مؤشرات عديدة، فيزيد من عبء الإعالة للعامل ويقلل من الدخول النقدية والحقيقية للأسر، مما يجعل خيارات اقتصادية واجتماعية، خصوصاً خيارات الرفاه الذي يتمتع بها المجتمع الأميركي، بجعلها غير محققة لعدم وجود الدخول الكافية، وبالتالي عدم القدرة على الادخار والتحويلات الى الوطن الأم وهو الهدف الأسمى لغالبية المهاجرين الفلسطينيين في الولاياتالمتحدة. من خلال ما تقدم نرى أن نزيف هجرة الأدمغة والعقول العربية يؤثر إيجاباً في بناء وتطوّر الحضارة في الدول الجاذبة، في حين الدول العربية بحاجة ماسة وضرورية لمثل تلك الطاقات، الأمر الذي يؤكد ضرورة العمل من أجل تهيئة الظروف السياسية والاقتصادية لعودة الكفاءات العربية المهاجرة، فرأس المال البشري هو الأساس المتين لنهضة الأمم والشعوب. * كاتب فلسطيني