ما يجري في القدس هو محاولة توسيع رقعة السيطرة الشعبية على الأرض، كرد على التوسع الإسرائيلي، وعلى عقم الخطاب السياسي الفلسطيني المجرد من عناصر القوة، فلا مفاوضات مجدية بلا انتفاضة مستمرة، وها هي القدس من جديد تكتب السطور الأولى للانتفاضة الفلسطينية الثالثة، فعند أبواب الأقصى تم فك عقد الاشتباك السياسي العقيم عام 2000، واليوم وعند أبوابه أيضاً تسقط المغالطات اللفظية المتعلقة بالتسوية المتجاهلة للواقع، وتتهيأ الفرصة لولادة عناصر القوة الفلسطينية من جديد، وبعيداً عن النماذج المصنعة في الغرف المغلقة للوحدة الوطنية الفلسطينية، تسطر الجماهير الفلسطينية على أبواب الأقصى قوة المثال الحقيقية للوحدة الوطنية الفلسطينية، كما سطرتها الانتفاضتين الأولى والثانية، وعجز العقل السياسي الفلسطيني عن استيعاب دروسها، وها هي اليوم تلوح في الأفق فرصة جديدة لبناء وحدة وطنية حقيقية. لا بد من الاعتراف بأن الصراع الفلسطيني - الفلسطيني العقيم، والمستمر منذ سنوات أنهك الفعاليات الجماهيرية وحيّد العمل الانتفاضي، عنصر القوة الفلسطيني الوحيد، والسلاح الأمضى في مواجهة التوسع الإسرائيلي الاستيطاني، وما علينا اليوم سوى إفساح الطريق للانتفاضة الثالثة لتمر وتغسل أحقادنا، وتضع عربة الكفاح الفلسطيني على سكة التحرير، بدلاً من الصراع على الأوهام. القدس تؤكد من جديد محوريتها في الصراع وقدرتها الدائمة على إعادة الأمور إلى جادة الصواب. في إسرائيل يقرأون الأحداث في محيط الأقصى، على أنها محاولة شعبية فلسطينية للسيطرة على القدسالشرقية، فأحداث الأسبوع الأول قلصت عدد الأسر اليهودية في الحي اليهودي في القدس بمقدار 20 أسرة، فماذا لو استمرت الفعاليات الجماهيرية الفلسطينية، هذا سؤال لم تطرحه الصحف الإسرائيلية فحسب، بل دفع السؤال الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز إلى اللجوء الى الحاخام يوسف شالوم اليشيف الزعيم الروحي للتيار الليتواني في الوسط الأصولي، وطلب منه إصدار فتوى تحرم على اليهود الذهاب إلى الحرم خوفاً من اندلاع حرب، تجلب تأييداً عالمياً للفلسطينيين، وعبر عن مخاوفه بالقول إن «أمام إسرائيل تحديات احدها هو منع تدهور التوتر في القدس إلى حرب على خلفية دينية، في كل ما يتعلق بالحساسية حول الحرم يمكن المحرضين أن يضرموا النار». ما يخشاه بيريز وغيره من قادة إسرائيل هو اندلاع الانتفاضة من جديد، لأن ذلك من شأنه أن يعوق سياسة القضم التدريجي للقدس، الذي تمارسه إسرائيل منذ بداية الاحتلال، وهذا هو السبب الحقيقي لاندلاع المواجهات ودخول المتطرفين اليهود إلى باحة الحرم، هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير. وإذا كان من هدف للفعاليات الجماهيرية الفلسطينية فهو بالدرجة الأولى، إرغام إسرائيل على التوقف عن تلك السياسة، والتراجع عن التغييرات التي أحدثتها، وعملية توطين اليهود في القدس مكلفة لإسرائيل، التي تقدم الكثير من الحوافز لليهود للذهاب إلى القدس. واندلاع الانتفاضة من جديد سيدفع الكثير منهم إلى ترك القدس، وبالتالي تخسر إسرائيل الكثير مما تعتبره انجازات على صعيد الاستيطان، لذا تراها لا تستطيع السير قدماً وباستمرار في سياسة السيطرة على القدس، وتقوم بذلك في شكل تدريجي وعلى مراحل وتنقي دائماً الأجواء السياسية المناسبة، لذا فإن المقيم في القدس يدرك أكثر من غيره حجم الخطورة، فهناك مشاريع تنفذ في القدس عمرها سنوات يتوقف العمل فيها لفترة ثم يتواصل، وفقاً لأجندة تحددها الحكومة ومجلس المستوطنات، وشارون كان دائماً وراء فكرة «العمل بصمت في القدس»، إذاً فاستيلاء إسرائيل على القدس هو عمل تراكمي، يهدف الى عدم إثارة حفيظة المجتمع الدولي والعالم الإسلامي، لكن المخطط هو المخطط والخطوات مستمرة، مضاف إليها المحاولات المتكررة للمتطرفين اليهود لدخول الحرم، وفي كل مرة يكون التصعيد أكبر ويشبه جس النبض. وحدهم أبناء القدس الذين يعايشون ما يجري على الأرض يدركون الحجم الحقيقي للكارثة التي تهدد مدينتهم، وليس مصادفة أن أكثر العمليات الفدائية جرأة ونوعية جرت في السنوات الأخيرة في القدس، سواء العملية في المدرسة الدينية أو عمليات الجرافات، وكلها عبّرت عن حجم الاحتقان بين المقدسيين من السياسة التي تنتهجها إسرائيل، واليوم بات كل شيء مكشوفاً، والتراجع الإسرائيلي أمام الجموع الفلسطينية هو بالدرجة الأول تعبير عن الخوف من اندلاع الانتفاضة الثالثة، وهي قادمة في كل الأحوال، ما لم تتراجع إسرائيل عن خطواتها التي اتخذتها، وأدت إلى عزل القدس عن محيطها الفلسطيني، والى عزل أحياء كاملة في القدس وهدم المنازل وتشريد أصحابها ومواصلة الاستيطان، علاوة على الاعتداءات المستمرة على المقدسات وفي مقدمها المسجد الأقصى، تلك الأسباب كلها كفيلة بتفجير الانتفاضة إن لم يكن اليوم فغداً، والولادة قاب قوسين أو أدنى. * كاتب فلسطيني