عادت أفغانستان الى واجهة الحدث الدولي، ليس فقط بسبب التداعي المتواصل في الوضع الأمني فيها، وأيضاً ليس بسبب فضيحة الانتخابات الرئاسية فيها، والتي لم يتمكن منظموها بعد أكثر من شهر على حصولها من اعلان نتائجها الرسمية، انما بسبب ما يجري في الإدارة الأميركية من نقاش حول جدوى تعزيز الوجود العسكري فيها، اذ ان القيادة الميدانية الأميركية هناك ممثلة بالجنرال ستانلي ماكريستال أعلنت انه «في حال لم تلب حاجتنا الى نحو 40 ألف جندي اضافي فإن المهمة مهددة بفشل محتم». هذا في وقت ترتفع أصوات في الكونغرس داعية الى «تقليص المهمة». ويبدو ان استجابة الرئيس باراك اوباما لأي من وجهتي النظر ستكون أكلافها كبيرة، وكبيرة جداً. وعلى رغم ذلك يبدو اوباما أقرب الى وجهة نظر القادة الميدانيين، اذ ان «تقليص المهمة» سيكون ضرباً من العبث، لا بل أقرب الى انتحار سياسي سترتد نتائجه على مختلف أوجه النفوذ الأميركي في المنطقة كلها. لكن الغريب حقاً لا يتمثل في تخبط ادارة اوباما بين خياري أفغانستان المرين، انما في طبيعة الفشل الدولي والأميركي في أفغانستان، وفي تضييع فرصة نجاح كان من الممكن ان تُعمم في حال حصولها! فاستيقاظ طالبان بعد هزيمتها في العام 2001 لم يكن قدراً محتوماً لولا التراكم الهائل في أخطاء ادارة الوضع بعد انهيار الإمارة. فشل في عملية التنمية التي كان من المفترض ان تُرافق انطلاق تجربة ما بعد طالبان، وفشل في بناء هيكل سياسي يقترب من الواقع الاجتماعي والقبائلي في تمثيله وأسلوب عمله، وفشل في فهم العلاقة بين السكان والقوميات... هذا كله ترافق مع فشل أمني وعسكري. الآن ما جرى قد جرى، ويبدو ان التذكير به ليس أكثر من ضرب من الندب. والآن علينا ان نتساءل عما يدور في أذهان القادة الميدانيين من خطط لما بعد مرحلة «ارسال مزيد من القوات»؟ فقد ثبت ان نجاح المهمة لا يرتبط فقط بالإمساك بالوضع الأمني والميداني في الإمارة المنبعثة، اذ يُجمع الضباط الأميركيون انه لا مناص من التوجه الى اعادة بناء دولة وإدارة محلية تتمكن من كسب ثقة السكان. لا نجاح في افغانستان من دون اتمام هذه المهمة، وطالبان استيقظت بسبب إهمال هذه الحقيقة. نعم أمراء طالبان البشتون عادوا وانطلقوا من الجنوب باتجاه كابول متسلحين بغياب الرغبة الأميركية والدولية في بناء دولة تلبي ما كان الأفغان حُرموه خلال حكم طالبان، لا بل ان حرمانهم تضاعف في مرحلة ما بعد السقوط. فالأفيون الذي كان يسد بعضاً من رمقهم في المرحلة الطالبانية كفوا عن استنباته بعد العام 2002، والأمن الذي كان انجاز طالبان الوحيد تداعى بعدها، والبشتون الذين يمثلون أكثر من 40 المئة من الأفغان تحولوا الى مطاردين ومُتهمين، وتم تهميشهم في تجربة ما بعد السقوط. اذاً «هيا الى طالبان»، هذه العبارة هي تماماً ما كان يقوله الملالي البشتون الفارين والمتعبين في مخيمات اللاجئين بالقرب من مدينة بيشاور الباكستانية. الرئيس الأفغاني حامد كرازاي عائد الى الرئاسة منهكاً هذه المرة. الانتخابات شابها قدر كبير من الثغرات، وهو أمر صدع الثقة الدولية بشرعيته. اذاً، يبدو ان طالبان العائدة بقوة الى وسط أفغانستان بعد ان فرضت سلطة ما لها في الجنوب، صارت حقيقة لا بد من التعامل معها. انها قدر الآن، وتجاوز هذا القدر سيكون انتحاراً ثانياً للتحالف الغربي في أفغانستان. طالبان هي البشتون، والسعي لبلورة صيغة علاقة بينها وبين التجربة الجديدة هو أفق النجاح او الفشل. ويبدو ان ثمة أكثر من احتمال لانعقاد مثل هذه المعادلة. ففي بيانها الأخير بمناسبة مرور 8 سنوات على الاحتلال الأميركي يمكن للمرء ان يرصد لدى الحركة توجهاً وإشارات لا تخلو من رغبة في النقاش، فهي ضمنت بيانها عبارات جديدة كأن تقول ان «معركتنا ليست مع الغرب انما مع محتلي بلادنا»، وإنها (طالبان) لم تسلم قادة «القاعدة» في العام 2001 الى الأميركيين لأن الاخيرين «لم يقدموا أدلة كافية على تورط القاعدة في عملية 11 ايلول». يحمل هذا الكلام جديداً من دون شك، فهو أولاً يؤشر الى رغبة طالبان في تقديم نفسها بصفتها حركة أفغانية خارج مفهوم «الجهاد العالمي» الذي تدعيه «القاعدة»، وفيه أيضاً عدم تبنٍ ل11 ايلول وإنكار اعتباره «انجازاً جهادياً»، ناهيك عن ما في بيان طالبان من ابتعاد عن خطاب «القاعدة» وتنصلاً من برنامجها. ثمة وقائع ميدانية تُعزز الاعتقاد بإمكان فصل بين «طالبان» و«القاعدة» في أفغانستان، فيبدو واضحاً مثلاً ضعف المساهمة العربية في «الجهاد الجديد» في افغانستان، في حين تظهر هذه المساهمة أكبر في اقليم الحدود الباكستاني، وصار من شبه المحسوم ان قيادة «القاعدة» تقيم خارج الأراضي الأفغانية، اذ ان التقارير الاستخبارية الأخيرة أشارت الى وجودها في مدينة كويتا الباكستانية، وكثيراً من التقارير الصحافية رصدت مؤخراً تذمراً في أوساط «الجهاد الأفغاني الجديد» من رغبة «المجاهدين العرب لجرنا الى مواجهات خارج الحدود». لا يعني هذا الكلام توقعاً لحرب وشيكة بين «القاعدة» وطالبان»، لكنه يمكن ان يؤسس في حال التقطه القادة الأميركيون الميدانيون ل «طالبان أفغانية» يمكن ان يتأسس معها تفاهم ما وشراكة ما في حال وُجدت رغبة وإرادة في نجاح «المهمة». فالشرعية العرجاء لكارزاي لم تعد تكفي لاستئناف مسيرة بناء أفغانستان، وفساد الدولة وتآكلها لا يساعدان على شيء في هذا السياق. اجتراح حل لن يكون بمعزل عن صفقة مع طالبان التي صار من الواضح انها أكثر تمثيلاً من الرئيس العاجز عن ايصال صناديق الاقتراع الى كابول. إرسال مزيد من القوات لن يكون كافياً، وكذلك تجريد حملات لمكافحة الفساد لا يبني وحده دولة، وحقول الأفيون بحسب التقارير الدولية عادت تُغذي خزينة طالبان، وهي تُغذي أيضاً حسابات المسؤولين الأفغان الجدد. اذاً لا بد من الكلام مع طالبان.