أن تطالب وسيلة إعلامية - فضائية كانت أو صحافية - بأن تقف على الحياد في تعاملها مع القضايا المختلفة، فلا تبدي فيها رأياً، أو تتبنى فيها موقفاً، فتلك مطالبة غير واقعية، ولا منطقية؛ فما من وسيلة إعلامية (جادة) إلا ولها رسالة تسعى لنشرها، وأهدافٌ تحاول تحقيقها، ونحن وإن كان لنا الحقُ في التحفظ على رسالتها، أو رفضِها ومناوأتِها؛ غير أنه ليس من حقنا الذي نقاضيها به أن تصبح بلا رسالة، ولا هدف، ولا موقف؛ بدعوى (الحيادية)؛ إلا أن تكون قد اشترطت على نفسها موقف الحياد، وكانت دعايتُها هذه الدعوى؛ كبعض المواقع والقنوات الإخبارية والوثائقية، وما عدا ذلك فلا، وإلا لكان من المتعين علينا أن تكون وسائلنا الإعلامية بلا هُوية ولا رسالة ولا هدف؛ تحججاً بالحيادية في كل قضية حية. أما المعايير المهنية الأخلاقية فهي التي لا يجوز بحال انتهاكها، ومن أهمها الذي يعنينا هنا: الصدقية، والموضوعية، فالصدقية تعني التزام الصدق والتوثق في نقل الأخبار والأقوال والأفكار؛ بلا تحريف ولا تدليس ولا تشويه بزيادة أو نقصان. كما تعني الموضوعية في ما تعنيه: الإنصافَ والعدلَ مع المخالف أياً كان، وهو مبدأ إسلامي قبل أن يكون مبدأً إعلامياً تتبارى وسائل الإعلام بالتفاخر به، (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وتتقاضاك الموضوعية والإنصاف ألا تُحمل كلام الخصم أو الرأي الآخر ما لا تحتمله دلالاته، أو تفسره بما لا يطاوعك عليه لفظه، أو تُجاوز ما بدا لك من كلامه إلى ما خفي عليك من نيته، فتحاسبه بما لم يقل، وتحاكمه بما لم ينطق به. ومما يُشبه هذا انتهاكاً للموضوعية: أن تحاكمه وتنتقده بما نُقل عنه من دون أن تكلف نفسك عناء الرجوع إلى نص مكتوبه، أو سماعِ حديثه بصوته، فتدينه بما قال، لا بما (نُقل عنه)، فما نُقل لك إنما هو - قطعاً - فهم الناقل، وليس نصَ كلام المنقول عنه، وما آفة الأخبار إلا رواتها. ليس مطالباً في قناتك، ولا في صحيفتك، أن تعرض مع رأيك الرأيَ الآخر؛ ولكن إذا عرضته فأعرضه بصدقية وموضوعية، ولا تعرضه أعرجَ مشوَّهاً. إن من أشد ما يُنتهك من حُرمة الموضوعية في النقد هو تجاوز الناقد لنقد الفكرة إلى السخرية بالشخص المنتقَد، وهو ما يسمى بشخصنة النقد، فيصبح المقصودُ في النقد هو الأشخاص، وليس الأفكار، وهذا الانتهاك على قبحه وكونه من أحط صفات التخلف والانحطاط الفكري؛ إلا أنك واجده في بعض (أدعياء العقلانية والفكر والتنوير)! فحين يستعصي عليه نقد الفكرة؛ لوجاهتها وتماسكها وحسن إيرادها، يمد قلمه إلى صاحب الفكرة بالسخرية والشماتة واللمز، وهل يعجز أحد - صغر عقله أو كبر - أن يسخر بالآخرين ويلمزهم؟ ليس من حق أحد أن يضيق بنقد الآراء والأفكار غير ذات القداسة، فضلاً عن أن يسعى لمنع ذلك، فالنقد حق يستحقه كل أحد بمحض الآدمية؛ ولكن بشرط التزام آداب النقد، فإذا لم يلتزمها الناقدُ، كان من حق غيره أن يضيق بنقده، وأن يستنكره استنكارَ مجاوزته لآدابه. هذه من أبجديات المهنية الإعلامية، بل الأخلاقية في كل تعامل؛ ولكنّ المتهوكين فيها كثر، ولم يقع أكثرُ من وقع فيه بسبب الجهل؛ ولكنه الهوى الغلاب! الذي يجعل راكبه يطوِّح من أجله بكل معايير العدل والإنصاف والمهنية، حتى ليبدو لك بلا مبدأ ولا ضمير. إن كثيراً من الوسائل الإعلامية - التي تنتهك الموضوعية والصدقية - تنتهكهما وهي قادرة على الترفع عن ذلك، وعلى احترام المهنية الإعلامية، فإمكاناتُها تطوِّع لها ما تعسّر على غيرها، وتقرب لها ما بعد عن غيرها. وأخيراً: لا بد من التفريق بين مصطلحي: الحيادية والموضوعية، فالحيادية - فيما يبدو لي من لفظها - تعني ألا تتبنى رأياً حين تعرض الآراء، وألا تتبنى توجّهاً حين تُنشئ مؤسسة إعلامية، فإذا كان مفهومها هو هذا، فلا يحق لأحد أن يُلزم غيره بها إلا إذا ادعاها، أما الموضوعية والصدقية فهي التزام الإنصاف والصدق والعدل حين تعرض رأي غيرك، وليس من انتهاكها أن تتحفظ عليه أو تنتقده. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]