أثار موقف مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان في 2/10/2009 بتأجيل النظر في تقرير غولد ستون ضجة كبرى، فقد تابع العالم الجهود المكثفة للجنة تقصي الحقائق المستقلة التي يرأسها القاضي غولدستون المتمرس في التحقيقات الجنائية والمكلف تقصي الحقائق في محرقة غزة. وعندما صدر تقرير اللجنة في أواسط أيلول (سبتمبر) الماضي في أكثر من 500 صفحة متضمناً إدانة واضحة للمسؤولين الإسرائيليين عن المحرقة ومطالباً بعرض التقرير على مجلس الأمن حتى يحول الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية، وينظر في فرض عقوبات على إسرائيل، استعاد العالم العربي الأمل في بصيص العدالة الدولية. ولذلك فإن قرار مجلس حقوق الإنسان تأجيل النظر في التقرير حتى الدورة المقبلة في آذار (مارس) 2010 أحدث صدمة في العالم العربي وفي أوساط منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية التي أعدت تقارير انتهت إلى النتائج نفسها. والراجح أن السلطة الفلسطينية تعرضت لضغوط شديدة من إسرائيل والولايات المتحدة حتى تطالب من خلال المشاورات مع العرب والمسلمين، ومن خلال المندوب الباكستاني، بالتأجيل، على رغم ما تردد من أن 33 صوتاً من إجمالي 47 صوتاً كانت تكفي لاعتماد التقرير. ولا شك في أن عدم النظر في التقرير أصاب غولد ستون ولجنته بصدمة شديدة، فذلك يدل على نجاح إسرائيل في إحباط هذا العمل الذي قام به غولد ستون (اليهودي صديق إسرائيل والذي كان اعتذر عن عدم القيام بهذا العمل خشية الميل إلى إسرائيل). ما هو مصير التقرير ومصير اللجنة ودلالة موقف مجلس حقوق الإنسان بالنسبة الى مستقبل الجهود الرامية إلى التعقب القضائي الإسرائيلي للمتهمين بارتكاب جرائم في محرقة غزة؟ الأصل أن غولد ستون تلقى التكليف بمهمته من مجلس حقوق الإنسان بقرار صدر بالأغلبية نفسها التي كانت كفيلة باعتماد تقريره إذا عرض على المجلس، وأن المجلس أصدر قرار التكليف بناء على تقرير ممثله الخاص في الأراضي الفلسطينية البروفيسور ريتشارد فولك (اليهودي أيضاً) المتمتع بالنزاهة والحيدة والذي أوصى بتشكيل لجنة مستقلة هي لجنة غولد ستون لتقصي الحقائق في محرقة غزة. ويفترض أن يقدم تقرير اللجنة إلى مجلس حقوق الإنسان ثم تنتهي مهمة اللجنة وينتهي تشكيلها. وما دامت لجنة تقصي الحقائق تتسم بالطابع الفني والمستقل فإن إقرار المجلس تقريرها هو عملية إدارية لا تتعلق مطلقاً بما ورد في التقرير. وكان يفترض أن المجلس بعد أن ينظر في التقرير أن يتخذ قراراً بالخطوة التالية، وهي بحث تنفيذ توصيات التقرير بإحالته على مجلس الأمن لاتخاذ ما أوصى به التقرير من إجراءات ضد إسرائيل كدولة وضد المتهمين كأفراد بإحالتهم على المحكمة الجنائية الدولية. ومن الواضح أن وقوف التقرير عند حد العرض على المجلس من دون اتخاذ قرار فيه، لا يقدح في القيمة القانونية والفنية للتقرير. من ناحية أخرى، فإن رئيس اللجنة لا يملك سلطة تجاوز مجلس حقوق الإنسان، وعرض التقرير على مجلس الأمن أو أن يحيل التقرير بنفسه إلى المحكمة الجنائية. كما لا يملك مجلس حقوق الإنسان أن يحرك الدعوى الجنائية بناء على هذا التقرير، إن أقره، أمام المحكمة الجنائية الدولية، لأن المادة 13 من نظام المحكمة حددت طرق تحريك الدعوى بشكل حصري. من الواضح أيضاً أنه حتى لو أقر مجلس حقوق الإنسان هذا التقرير وأحاله على مجلس الأمن، فإن ذلك لا يعني أن مجلس الأمن يمكن أن يحيل الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية بسبب «الفيتو» الغربي، ما لم يكن «الفيتو» الخماسي، لأن هذا الموضوع، على رغم خطورته، يقع سياسياً في المنطقة الرخوة في الأولويات الروسية والصينية التي يمكن المساومة عليها مع الدول الغربية الثلاث في مجلس الأمن، بقطع النظر عن فداحة الجرائم أو القيمة الأخلاقية والثقة في العدالة الدولية أو حقوق الضحايا بسبب المحرقة. لكن تقرير غولد ستون لن يفقد صلاحيته للإقرار من جانب مجلس حقوق الإنسان في أية مناسبة لاحقة، فلا يسقط التقرير بتقادم المدة، كما سيظل وثيقة قانونية مهمة تقدم كدليل من جانب الأفراد والمنظمات والسلطة الفلسطينية وأسر الضحايا إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ضمن اختصاصه في المادة (15) من نظام روما، كما يمكن تقديمه دائماً وفي كل وقت كدليل مستقل إلى القضاء الوطني في أي دولة طرف في اتفاقية جنيف الرابعة واتفاقية الأممالمتحدة لإبادة الجنس، كما يجوز الاحتجاج بهذا التقرير لطلب التعويض المدني عن الأضرار وعن الأعيان الثقافية التي تتهم بحمايتها المنظمات المختصة العالمية والعربية والإسلامية. يترتب على ذلك أن قيمة التقرير لا ترتبط بإقراره من مجلس حقوق الإنسان، وإنما يتمتع التقرير بحجية مطلقة في مواجهة الكافة، خصوصاً الأممالمتحدة. ومادام العائق الإداري هو وحده الذي حال دون استمرار دورته الطبيعية فإنه صار لزاماً على الأمين العام للأمم المتحدة أو الجمعية العامة أن يحيل أي منهما أو كلاهما هذا التقرير على مجلس الأمن، وأن يحيلاه معاً كدليل وشكوى إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لأنه لا يجوز أن تستخدم واشنطن وإسرائيل الضغوط لتعويق العدالة بحجة إتاحة الفرصة للسلام، وإن كان حقيقياً، فإن زجر إسرائيل وعدم إفلاتها من العقاب يرسي الثقة في العدالة الدولية ويجنبها الاتهام بأنها عدالة الأقوياء ضد الضعفاء، والمنتصرين ضد الضحايا. صحيح أن نتانياهو، في مجال نقده المرير للتقرير، اتهمه بأنه نصر القاتل على الضحية، لكن الأخطر أن يؤيد إغفال التقرير في مجلس حقوق الإنسان زعمه فيدفع إسرائيل إلى المزيد من الجرائم، كما سيدفع الضحية المظلوم إلى النيل من إسرائيل بكل الطرق. ولا بد من الإشارة إلى أن الحزم في هذا الاختبار يضع إسرائيل بين خيارين: إما الالتزام بالقانون أو العقاب. وأخيراً، فإن السؤال الملح يظل دائماً هو مدى سلطة حكومة رام الله في منع مجلس حقوق الإنسان من التصويت على تقرير اللجنة التي سبق أن شكلها المجلس نفسه، خصوصاً أن المجلس يستطيع أن يتخذ قرارات ضد أي حكومة لا تلتزم معايير حقوق الإنسان، فهل كان يمكن لطلب السلطة الفلسطينية أن يغير موقف المجلس لولا الهيمنة الأميركية والصهيونية؟ * كاتب مصري.