منذ قرنين من الزمان وأكثر، تواجه المجتمعات والجماعات العربية سؤال الإصلاح والتحديث والتقدم، منذ صدمة اكتشاف الغرب، والثورة الفرنسية والثورة الأميركية، والحملة الفرنسية على مصر، والآلة البخارية، والكشوف والرحلات ثم الاحتلال الكولونيالي المباشر للعالم الإسلامي، والحركات القومية والاستقلالية والليبرالية واليسارية والإسلامية، السؤال هو نفسه باق لا يتزحزح، والإجابة مثل تجارب سيزيف ومحاولاته، لماذا فشلنا في تحقيق الإصلاح؟ هل فشلنا في إدراك الإصلاح والتقدم؟ هل فشلنا في تطبيق الفهم الصحيح إن تشكل مثل هذا الفهم؟ واليوم وقد تشكّل فهم عالمي لدور المجتمعات وضرورة تمكينها بعدما روجعت تجارب الحكومات والدول والشركات ليصل العالم إلى فكرة مفادها ضرورة الشراكة والتوازن بين الحكومات والشركات والمجتمعات، فإننا نحتاج الى فحص قدرة المجتمعات واستعدادها للإصلاح والتنمية بعدما تأكد لنا عجز دولة الرفاه والتنمية، وتطبيق نظام السوق الذي تحول إلى إقطاع فظيع. من النخب إلى الحكومات إلى الجماهير ثم السوق والشركات، تشكلت المبادرات الإصلاحية أولاً على أكتاف النخب، ثم تحولت إلى حركات جماهيرية (قومية ويسارية وإسلامية) أو ببرامج ومشروعات حكومية (دولة الرفاه والتنمية)، وعندما تخلت الحكومات عن دورها للشركات والقطاع الخاص تشكل سؤال المجتمعات والإصلاح وشروطه ومقتضياته وفرصه، كيف تؤثر المجتمعات في أداء أو خدمات الحكومات والشركات نحو مصالحها واحتياجاتها؟ كيف توسع وتزيد خياراتها؟ هل هي قادرة على إدراك ما تريده وتسعى إليه؟ على سبيل المثال: ثمة شكوى عامة ومنتشرة عن ضعف المستوى العام للصحافة والإعلام في الدول العربية، وبُعدها من التحليل العميق والتوقعات والتقديرات الصحيحة أو المنطقية، وعجزها عن الشراكة مع المجتمعات في تطوير تأثيرها وتلبية احتياجاتها وأولوياتها، فهل هي أزمة الإعلام أم أزمة المجتمعات؟ الواقع أنها أزمة الفرد والقارئ العربي أكثر مما هي أزمة الإعلام، فالمستهلك هو الحكم النهائي وهو الممثل الشرعي والوحيد (المفترض) لما ينتجه الإعلام، كيف ترقى المجتمعات بأداء المؤسسات الإعلامية المفترض أنها شركات خاصة تعمل وفق شروط السوق ومتطلباته وتهدف أساساً إلى إرضاء الأفراد والمجتمعات وملاءمة أذواقها؟ يعتقد الناشرون، كثير منهم أو غالبيتهم، أن المستهلك لا يريد وربما لا يحتاج محتوى راقياً وجاداً وتحليلاً عميقاً للأحداث ومعالجات فكريةً وفلسفية، وهو اعتقاد مريح للناشرين والمنتجين بطبيعة الحال، فالصحافة الخفيفة والمسلية قليلة التكلفة نسبياً، وتجلب المعلنين والمستهلكين... والأرباح أيضاً. وفي المقابل، فإن الصحافة الجادة تحتاج إلى خبرات كبيرة ومتخصصين وجهد كبير في العمل الصحافي والبحثي والمعرفي، وتواجه عقبات سياسية وبيروقراطية، وبعد التكلفة المالية الهائلة، فإنها تكون غير مرغوب فيها من جانب الحكومات والمعلنين والقراء. المقولة ليست صحيحة. وعلى رغم الشواهد والأدلة الكثيرة والصحيحة أيضاً، ثمة أزمة كبيرة بالتأكيد، وبخاصة لدى المجتمعات والقراء والمستهلكين والمعلنين، ولكن هل هي أزمة طبيعية وتعبر عن وجهات السوق والعرض والطلب؟ أم أنه يجرى إنشاء مفتعل وقسري للطلب؟ كيف يكون الوصول إلى المعلومات مطلباً وحقاً مجتمعياً وشعبياً يجب تعلمه؟ وهناك أيضاً الحالة العامة للصحافيين وأوضاعهم وعلاقاتهم مع المهنة والمصادر وأطراف المعادلة المعلوماتية والصحافية، وهي بصراحة مزرية وبالغة السوء والمهانة، فالصحافي لا يحصل على المعلومات الأساسية والأخبار الدورية والبيانات بسهولة وتلقائية، ويجرى حجبها وانتقاؤها وابتزاز الصحافيين، وإن أحداً إلا من رحم الله لا يحتمل الصحافة المستقلة ولا الصحافيين المستقلين، والتنافس في العمل الصحافي ليس عادلاً ولا متكافئاً، بمعنى أن السوق لا تستقطب أفضل الكفاءات الراغبة والمتحمسة للعمل في الصحافة وفق قواعد عادلة ومناسبة، ويُقحم في سوق العمل عنوة عدد كبير من الدخلاء والأتباع والأصهار والفاشلين، ويمنع في الوقت نفسه أذكياء ومتفوقون وأصحاب كفاءة وقدرات، ويستبعد الصحافيون ويقربون ويمنحون ويمنعون وفق قواعد وأفكار فاسدة. وبعد ذلك، فإن الحديث عن المستوى الضعيف للصحافة ومحتواها وعلاقتها بسؤال الإصلاح والمجتمعات يجهل أو يتجاهل هذه المعطيات المحزنة. هل صحيح أن القراء يفضلون بالفعل التسلية والصور؟ هل صحيح أنهم لا يريدون المعلومات الدقيقة والوافية؟ وأنهم لا يرغبون في متابعة التحليلات والاستقصاءات والتحقيقات الصحافية الموسعة والدراما الراقية والفنون الجميلة والثقافة المتقدمة والتي بُذلت في إعدادها جهود وتكاليف طائلة؟ ثمة إجابة نمطية إغراقية ب «نعم»، ولكنها فكرة لم تخضع لاختبار دقيق وموضوعي، وأخشى القول إنه يجرى تنميط وهيمنة على اتجاهات المجتمعات وأذواقها، وينسب ذلك زوراً إلى العرض والطلب، فليس معقولاً ولا يمكن التصديق أن هذه النسبة العالية جداً من الجامعيين والمهنيين والسياسيين والنخب تفضل الأبراج ووصفات الطهو وصور النجوم وأخبارهم والمباريات الرياضية ودراما النميمة والخواء، وليس معقولاً أن هذا الغياب الإعلامي المفزع عن المهن والمصالح والأعمال والمطالب والاحتياجات والأولويات والسياسة والإدارة والاقتصاد هو قضية سوق وعرض وطلب! كيف نتحدث عن وجهة الصحافة والمجتمعات، والصحافة ليست حرة، والمجتمعات ليست حرة أيضاً، كيف نتحدث عن صحافة «أسلوب الحياة» ونحن نفقد أسلوب الحياة، الأطباء يقررون بشأنك في العيادات والمستشفيات على رغم أنك الشريك الرئيس والممول، والطرف المتلقي والمتأثر والمتضرر أو المستفيد. والمهندسون والمقاولون يبنون البيوت ويصممونها ويختارون مواد البناء من غير سؤال عن احتياجاتك الحقيقية أو ملاءمة البيئة والطبيعة أو قدراتك المالية أو ما يمكن الاستفادة منه في الطبيعة في التدفئة والإضاءة والتهوئة، أو ما يريحك أو يضايقك، والسوق تفرض عليك موضات اللباس بلا خيار أو قرار منك، والحكومة تقرر في شأنك كله كأنك قاصر وكأنها وصيّ عليك، وكيف تمضي الصحافة في شراكة مع المجتمع، وهي أسيرة الشركات المعلنة ورغبات او شهوات التوفير والربح، كيف يحصل المواطن على الخدمات والسلع التي يريدها ويحتاج إليها بالفعل، وهو في نظر المقاولين والمسوّقين والمسؤولين غير جدير بالاحترام، أو لا يعرف مصلحته، أو ليس سوى كيس نقود أو صراف آلي. يجب ألا تجد الصحافة نفسها فقط في الأزمات السياسية والأخبار الرسمية، والسؤال هو كيف نمضي بالصحافة لتكون جزءاً من العملية التعليمية في المدارس؟ كيف نجعل المعلومة في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والجامعات... وسلعة يطلبها المواطنون وتتداولها المؤسسات المجتمعية والشركات؟ كيف يرى الجيل القادم نفسه، كيف يعي ذاته؟ ما الفارق بين ما نريده لأنفسنا وأبنائنا وبين المتاح؟ حرية الصحافة تعني مجتمعاً حراً ومنفتحاً، وعندما لا يوجد من يدافع عن الحرية والتعددية ومستوى وجودة المعلومات والخدمات الصحافية والمحتوى الإعلامي لا يمكن الحديث عن اتجاهات في العرض والطلب في الصحافة والإعلام، وفي حال تعذر وصول وتوصيل كل الأصوات والآراء والمطالب، أو عندما لا يوجد من يدافع عن التعددية والحرية لا يصل إلى مسامعنا إلا صوت الأكثر نفوذاً والأكثر جشعاً والأكثر مالاً. كيف نعرف ما لا يقال لنا؟ كيف نجد المعاني بين السطور؟ كيف نكشف الأسرار والخبايا والدوافع والمصالح غير المعلنة في ما نقرأه ونسمعه ونشاهده؟ تلك أمور حاسمة في ممارسة المواطنة وكفالة عدالة الفرص وتكافؤها، وفي الإجابة عن دور المجتمعات وتمكينها ومشاركتها. * كاتب اردني