نظمت مؤسسة الفكر العربي مؤتمراً في بيروت الأسبوع الماضي عن حركة التأليف والنشر في العالم العربي شعاره «كتاب يصدر، أمة تتقدم»، وأعلن الأمير خالد الفيصل، رئيس المؤسسة، في ختام المؤتمر تقديم جائزة سنوية بمبلغ مئة ألف دولار لأفضل كتاب عربي، أياً كان موضوعه. مؤسسة الفكر العربي مبادرة تضامنية بين الفكر والمال، والمفكرون من أعضاء مجلس الإدارة يفكرون كيف يصبحون من رجال المال، وأصحاب المال من الأعضاء يفكرون كيف يصبحون كتّاباً وأدباء. والمؤسسة ليست غنية كثيراً بالمال، إلا أنها غنية برجالها، وكلنا يحاول، والجائزة الجديدة تضاف الى جوائز الإبداع السنوية التي كان لها على هامش المؤتمر جلسة شاركت فيها لغربلة أعمال المرشحين والمرشحات. مضى يوم كان الكتاب فيه خير جليس، أما اليوم فهو يقبع في زاوية مكتبة يجمع الغبار فوق خيوط النسيان والإهمال. وقد سمعت أرقاماً كثيرة في جلسات المؤتمر عن القراءة في البلدان العربية، أو عدم القراءة إذا شئنا الدقة، وتذكرت قول أبو عمار يوماً ان القضية الفلسطينية هي الرقم الصعب وأنا أجد ان الكتاب في بلادنا هو الرقم المستحيل. في العالم المتقدم كله حرية واحدة يزدهر الكتاب في ظلها، الكتاب في بلادنا يحتاج الى حريتين، حرية من الضغط السياسي وحرية من الحساسية الدينية. وكما يعرف القارئ فالضغط والحساسية من الأمراض، والحكومة العربية لا تخرج من مرض حتى تصاب بآخر، فمن طاعون عمواس (حدث في التاريخ العربي أرجو من القارئ ان يهز ذيله ويبحث عنه في المراجع)، الى الحمى القلاعية، الى الانفلونزا الآسيوية، الى أنفلونزا الخنازير، ومن يدري فربما نسمع غداً ان الحكومة أصابها «بروستات» وما على المريض حرج. والعربي ليس أفضل من حكومته، فلا يهمه من الموضوع غير «كتب كتاب»، ويتزوج ويطلق ويسيء معاملة زوجته، ثم يقرأ كتباً دينية، ويسيء التفسير مرة أخرى ليبرر تحامله على المرأة، وفي النهاية يتهم الحكومة مع انها مرآة له في التقصير واستضعاف الذين يستحقون الحماية. أعود الى الكتاب، موضوع المؤتمر لا الزواج، فعندنا نابغون، وقد يقضي الواحد منهم سنة أو عشراً لإصدار كتاب مفيد يستحق القراءة، فإذا باع خمسة آلاف نسخة يعتبر من أكثر الكتب رواجاً، والأرجح أن يسرق ويطبع سراً وتضيع حقوق المؤلف. ويبقى الكتاب المبدع نادراً، وقد لاحظت في موضوع الكتابة على الطريقة العربية ان «التأليف» أكثر ما يكون عندنا في الكتب السياسية والسير الذاتية حيث يهزم الخيال الواقع، أما في الرواية فيغلب «التوثيق»، فهي تنويع على تجربة المؤلف أو المؤلفة، وتتحول صور من حياة صاحبها الى روايات تخلو أحياناً من جهد لكتم الصلة بين طرفيها، أي المؤلف نفسه وبطل روايته. أعتقد أنني نكّدت على القارئ بما يكفي هذا الصباح، مع أن في الأخبار السياسية نكداً لا نحتاج معه الى مزيد فأكمل ببعض الملاحظات الخفيفة لأضمن أن يعود القارئ الى هذه الزاوية غداً. سمعت اقتراحات كثيرة لتشجيع العرب على العودة الى القراءة، ولا بد من أن في المئة ألف دولار إغراء كافياً، فعندما كان أمير مكةالمكرمة يعلن الجائزة لاحظت ان ثلاثة أو أربعة من الحاضرين أسرعوا الى الخارج، ليبدأوا التأليف. عندي اقتراح آخر لزيادة عدد القراء العرب، فنحن من أكثر أمم العالم اقبالاً على التدخين رغم الخطر الماثل على الصحة، وربما عناداً بسبب هذا الخطر. وأقترح بالتالي أن نطبع على كل كتاب «القراءة تضر بصحتك»، أو «القراءة تسبب مرض القلب». وبما ان نصف نسائنا حوامل باستمرار فربما نطبع «القراءة تؤذي المرأة الحامل والجنين». أشعر واثقاً بأن العربي الذي يقرأ مثل هذا التحذير سيقبل على الكتاب بالنَّهم والشراهة والتهور والهبل كما يقبل على علبة السجاير. وبما أنني نذرت نفسي لخدمة القارئ، فإنني أنصحه إذا حاول أن يدعي الثقافة ويحضر مثل مؤتمرنا ألا يجلس في الصف الأول، كما فعلت، فهو ان فعل لا يستطيع أن يتثاءب أو ينام أو ينسحب من الجلسة والكاميرا مسلطة عليه، بل لا يستطيع أن يمدّ رجليه حتى لا «يتفكرش» بهما أحد كبار القوم. كذلك أنصحه إذا أصابته «حكّة» ألا يحك لأن هذا كله يسجل وتصبح حكّته من وثائق المؤتمر. في النهاية، كنت أحضر دورة الجمعية العامة في نيويورك وتركت مساء الاثنين من الأسبوع الماضي، ووصلت الى مطار هيثرو في لندن صباح الثلثاء، وانتقلت الى طائرة لبنانية حملتني الى بيروت، وكانت درجة رجال الأعمال ملأى، والدرجة السياحية نصف خالية، وهذه «عنطزة» لبنانية معروفة. في طريق العودة صباح السبت الماضي الى لندن على متن طائرة أهلنا من طيران الشرق الأوسط أكلت قليلاً مما وقع أمامي، ثم أقبلت مضيفة شابة حسناء عرضت عليّ خياراً من عجّة أو كنافة بالكعك، واعتذرت عن قبول مزيد من الطعام، وأصرّت وهي تقول ان الكنافة لذيذة. واعتذرت مرة أخرى فنظرت إليّ وقالت «بزْعل»، أي انها ستزعل إذا لم آكل، فكأنها تستضيفني في بيت أهلها، المضيفة اسمها سارة، وقلت لها ان «بِزْعل» اجمل كلمة سمعتها خلال أسبوعين من العمل والطيران عبر ثلاث قارات.