في منطقتنا أكثر من تلوّث واحد، وأكثر من سبب للتلوّث. اليوم يحتلّ أحدَ العناوين موضوعُ المعاملة التي يتعرّض لها أفراد شيعة، لبنانيّون وغير لبنانيّين، في دولة الإمارات العربيّة وفي غيرها. هؤلاء يُطرد بعضهم من وظائفهم وبعضهم من البلدان التي هاجروا للعمل فيها، وغالباً ما تترافق العقوبتان. صحيح أن الخوف من إيران وسياساتها الراديكاليّة، ومن التنظيمات المتطرّفة، خصوصاً منها «حزب الله»، يوفّر «التبرير» المعلن أو المضمر لهذا السلوك. لكنّنا نعلم أن ما يحصل مع أفراد شيعة سبق أن حصل مع كثيرين كانوا يؤخَذون كأنّهم كلّ واحد، بجريرة حكومات أو أحزاب أو بلدان يُفترض أن الأفراد – الضحايا يشاركونها الولاء والانتماء. فما من شعب أو جماعة إلاّ تعرّضا في فترة سابقة إلى مثل هذا المصير: فهناك فلسطينيّون ومصريّون طُردوا من ليبيا، وفلسطينيّون ومصريّون طُردوا من العراق، ويمنيّون وأردنيّون وفلسطينيّون طُردوا من الخليج...، وهكذا دواليك. ويتّفق العرب، مجتمعات وحكومات، على أمرين أساسيّين يشكّلان بعض الأعمدة المؤسّسة لثقافتهم العميقة، مهما اختلفوا في سياساتهم وأحلافهم: من جهة، التوكيد على أنّنا «إخوان» وأن فلسطين «قضيّتنا المركزيّة» جميعاً، ومن جهة ثانية، أنّهم لا يعترفون عمليّاً بوجود المواطن – الفرد، فيبقى هذا، عندهم، مجرّد تعبير عن طائفته أو دينه أو دولته. وهكذا ينزل به العقاب حين تسوء العلاقة بين دينين أو مذهبين أو دولتين. وغنيّ عن القول إن من كانت هذه حاله ليس «أخاً» للآخر الذي يشاركه الحال إيّاها، كما يستحيل على هذين «الأخوين» أن تجمع بينهما، إلاّ في الخطابة، أيّة «قضيّة مركزيّة». إنّ ما يجري، بعيداً من الكذب «الأخويّ» الذي نتبادله كما نتنفّس، لا ينمّ إلاّ عن اتّساع رقعة «الآخر» في حياتنا: فهو بدأ يهوديّاً، ثمّ انضاف إليه المسيحيّ والكرديّ، ومنذ سنوات صار «الآخر» يعني الشيعيّ عند السنّيّ، والسنّيّ عند الشيعيّ. ونحن اليوم على مشارف الانتقال إلى طور كلّ فرد فيه آخرٌ للفرد الثاني. فإذا عطفنا على ذلك أن جزءاً أساسيّاً من اللوحة يُعنى بطريقتنا المتخلّفة في التعاطي مع العمالة الأجنبيّة، عربيّة كانت أم غير عربيّة، بتنا على يقين من اجتماع أسوأ الحداثة وأسوأ القدامة فينا. فمن الحداثة لا نأخذ إلاّ التنظيم والتأطير اللذين يتيحان للسلطات فرض السيطرة وإحكام القبضة وعدّ الأنفاس وصولاً إلى الطرد، ومن القدامة نأخذ الموقف من الغريب وإحداث المطابقة الكاملة، شبه الدمويّة، بينه وبين «قومه». وما من شكّ في أن «القضايا» التي تحملها، وتستغلّها، الدول والتنظيمات الراديكاليّة تمدّ التوتّر العصبيّ الموروث بأسباب جديدة وغنيّة. ولهذا فإنّها تعيق تشكّل المجتمعات القليلة الاندماج كما تمنع استواءها الوطنيّ بحجج «مقاومة إسرائيل» أو أميركا، فلا تخيف إلاّ الجار الأضعف. لكنّ ضرورة الحدّ من هذه «القضايا» شيء وخلق «قضيّة» ضدّ «القضايا» شيء آخر. ذاك أن هذا النوع من الوطنيّات مقلق بدوره، ومن علامات القلق الذي يتسبّب به أنّه قد يدفع مواطنين شيعةً لم يندفعوا إلى أحضان «حزب الله» وإيران إلى تلك الأحضان. في هذا يتكامل الجهدان الراديكاليّ والمعتدل، من موقعيهما المتباينين، في إضعاف نسيج مجتمعاتنا ورفع صعوبات الاندماج الوطنيّ إلى استحالات.