إن أفضل مادة يمكن من خلالها أن نفهم عالمنا الثالث اليوم هي مادة «التاريخ». وعندما نتحدث عن نظرية التقدم أو التطور عبر التاريخ فإن مفهوم التقدم من المفروض أن يكون أعمق من مجرد تحرر الفكر الإنساني من السلطتين «الدينية أو السياسية». وإذا كانت نظرية التقدم التاريخي من وجهة نظر المؤرخين ليست ذات قيمة مطلقة بسبب وجود فترات في التاريخ يتدهور خلالها الفكر الإنساني كما حدث في فترة العصور الوسطى - مثلاً - في أوروبا والتي جاءت بعد الحضارات القديمة، فإن فكرة التدهور التاريخي لا تقل في إيمان المؤرخ الحقيقي عن نظرية التقدم، بخاصة أن التقدم كان قد عبّر عنه مفكرون وباحثون في حين أن فكرة التدهور لا يعبر عنها إلا قطاع كبير من عامة الناس وبسطائهم، لذلك فمن الخطأ أن يتصور المؤرخ أن لا قيمة عالمية في فلسفة التاريخ لرأي وفكر أي فرد عادي من أبناء المجتمع الواحد. فرأي الإنسان العادي لا يقل أهمية عن آراء المفكرين بسبب أن آراءه تعبر في حقيقتها عن وجدان الرأي العام في أي مجتمع، وهذا في تصوري ما يشكل في ذهنية وفكر الإنسان العادي مسار التاريخ من وجهة نظره، اذ يراه في معظم الأحيان يسير من تدهور إلى آخر، ربما بسبب تجمع عوامل عدة مهمة شكلت في واقعها مثل هذا التصور لديه. فانتشار الأساطير والخرافات بشكل كبير حتى في عصرنا هذا أسهم في انتشار فكرة تدهور التاريخ لدى العامة، فلم يبق لديهم أي أمل بمستقبل أن يعيش الإنسان بالأمل وعلى الأمل من أجل إصلاح أحوال الناس، وكل ذلك يجري في تصور الإنسان العادي بمفهوم الخلاص «الإلهي» وليس التقدم الإنساني، أو بمعنى آخر إصلاح أحوال الناس بتدخل من العناية الإلهية، بخاصة عندما تصل الأمور إلى مستوى متدنٍ جداً ومتدهور، اذ يبعث لهم الأمل في حينها بمن يخلصهم فتصل الأمور في عقول عامة الناس وبسطائهم إلى سيادة عقائد معينة تسيطر على ذهنية معظمهم مثل مسألة: انتظار المهدي المنتظر أو عودة المسيح المخلص اللذين سينتشلان البشرية من انحطاطها وتدهورها التاريخي. وهذا في الواقع يقودني الى مناقشة «العامل الديني» والذي لا يخرج عن تصور الأتقياء في كل عصر ومكان للفساد الخلقي بأنه دائماً يطبع عصورهم فيلجأون للمقارنة بين عصرهم وعصر آبائهم وأجدادهم الذين يتصورون دائماً أنهم كانوا أشد منهم تديناً وربما أكثر إصلاحاً. ولا عجب في ذلك بخاصة أن شواهد التاريخ تنقل لنا صدقية مثل هذا التصور لدى الديانات الأخرى في الهند أو الصين - مثلاً - فقد سادت لديهم عبادة الأسلاف على أساس أن الأجداد هم خير من خلفهم خلقاً وديناً وفكراً وأكثر علماً وحكمة وفهماً. كما يشهد التاريخ على أن جميع معتنقي الديانات السماوية ينظرون إلى عصور الأنبياء (عليهم السلام) على أنها أمجد العصور وأسماها روحياً وخلقياً، وإن الإنسانية تتدهور من بعدهم تماماً مثلما تسود عندنا نحن المسلمين فكرة أن خير القرون هو القرن الذي عاش فيه سيد البشرية محمد - عليه الصلاة والسلام - والصحابة ثم التابعون من بعدهم. لو قرأنا بعمق موجة التفاؤل التي سادت تاريخ أوروبا - مثلاً- في عصر التنوير بعد سيادة نظرية التقدم التاريخي - نحن أفضل وأحسن حالاً من آبائنا فلدينا كل شيء حتى الحرية - وكما قدم لها مفكرو هذا العصر لوجدنا أنها لم تمتد إلى أكثر من ذلك بخاصة بعد أن صُدم الأوروبيون بالحربين العالميتين في أقل من نصف قرن، ارتفعت خلالها أصوات المفكرين الأوروبيين المتشائمين والمنذرين أوروبا بالتدهور والانحطاط من أمثال شبنغلر وتوينبي وغيرهما، فأصبح الإنسان الأوروبي بعد هاتين الحربين قلقاً جداً على مصيره. وعلى رغم كل ما قدمته المدنية من رفاهية مادية بشكل خاص فإن إنسان اليوم ليس أسعد حالاً من إنسان الأمس الذي لم ينعم بالتكنولوجيا أو المخترعات المادية، فإنسان اليوم استبدل بشرور الماضي شرور الحاضر، فهو قضى على استعباد الإنسان الملون، لكنه استبدل به استعباد شعوب ودول كاملة عن طريق الاستعمار في الوقت نفسه الذي فجر فيه الذرة، ليكون تحت رحمة أسلحة الدمار الشامل، ولتصبح مسألة السلام بين شعوب الأرض في تاريخنا المعاصر قائمة على رعب التوازن النووي. حقيقة أن نظرية التقدم التاريخي تُعد انتصاراً لقوى النور على الظلام، عندما يكون العقل دائماً هو المرشد الأول والأخير والدافع نحو الأمام باتجاه المستقبل ونحو مزيد من الإبداعات الإنسانية الكفيلة بالقضاء على الجهل وسحق البدع والخرافات بخاصة تلك التي بدأت تفقد توازنها وترفع صوتها عالياً في عصر العولمة لتحاول الامساك بزمام الأمور من جديد والسيطرة على عقل الإنسان المعاصر باسم الدين أو المذهبية أو الطائفية وغيرها. وعلى رغم ذلك فإن نظرية التقدم التاريخي لا تعني دائماً أن حركة التاريخ قد تكون في اتجاه صاعد ومتصل، وإنما قد تحدث مفاجآت ترتد معها الحضارة الإنسانية المادية والمعنوية، الأمر الذي يتطلب ضرورة أن نُبقي على التفاؤل بالمستقبل قائماً ما دام العقل الإنساني قادراً على إحراز التقدم في العلوم المختلفة والاكتشافات المبدعة، ولا بد للمسيرة الإنسانية أن تحاول التقدم دائماً بخطوات نحو المساواة بين البشر والتخلص قدر الإمكان من عبودية الإنسان لذاته وعقله، والتي إذا خرجت من إطارها الداخلي البشري فإنها ستتجسد في عبودية الإنسان للآخرين من حوله. إن التقدم المادي لا يحقق السعادة البشرية بقدر ما يحقق الطموحات الإنسانية «القاتلة»، تلك التي لا يمكن أن تصل إلى حدود معينة ولا يمكن لنظرية التقدم التاريخي أن تزيح التشاؤم بالمستقبل إذا بقيت في إطارها المادي فقط من دون الاهتمام بضرورة إعلاء جانب الروح والسمو الخلقي للإنسان إلى جانب التقدم العلمي المادي، اذ من خلالها - فقط - يستطيع الفرد أن يؤمن حقوقه «المحترمة» والتي تسير به نحو السعادة الاجتماعية والفكرية والخلقية، فيتمكن بعدها من أن يحيا حياة إنسانية شريفة لا يكون همها الأول والأخير البحث عن الخبز فقط. * أكاديمية سعودية. [email protected]