ليس المساء عتبة لشمس الغروب. إنه حيلة النهار العائد لا محالة. تنفتح يد الشاعر أمامنا كحقول القمح تحت شمس حارقة، وتغدق علينا. يكتب أنسي الحاج، وهو المشتعل بنار الداخل، كمن يتنزّه على حافة الجحيم ويراوغ العدم. لا أقصد هنا الكتابة المتعلقة بالعمل المأجور ولا كتابة الموقف الآنيّ، سواء كان سياسياً أم عاطفياً، بل تلك المفتوحة على المجهول، الآتية من الأعماق تتآخى فيها أعتى البراكين وأصفى الينابيع. إنها الكتابة التي تُختزَل في «لحظة استحضار الحياة استحضاراً أقوى، استحضاراً يجدد التعلق بها» وفق قوله. هذا الكلام يعزّز موقع الرجاء في قاموسه ولا ينفيه. وتكمن قوّته أيضاً في أنه يصدر عمّن رأى، بصفاء حدسه وبصيرته، حقيقةً تبعث على القلق. القلق والرجاء توأمان في سريرة هذا الذي يقفز في الهاوية بحثاً عن خلاص، عن البرق الخاطف الذي يستحيل الإمساك به. منذ لقائنا الأخير في باريس، أي منذ سنوات طويلة، لم نعد نلتقي. بعض الشعراء والكتّاب، وهو واحد منهم، نلتقيهم في الكلمات التي يكتبونها، وهم فيها يعيشون أكثر من أيّ مكان آخر. بل إنّ الكلمات هي جسدهم الحيّ ووطنهم الحقيقي. إليها يهربون، وفيها يحلمون ويتوقون إلى الحرية. النزِق والحانق، لكنّه الحانق على الحياة. العصَب والغضب. لكنه الغاضب من نفسه ويظن الآخرون أنه غاضب منهم. ينبجس ويتدفّق. كالماء المندفع يخترق التربة ويخرج منها. لكن أين هي الابتسامة التي وجدناها، بالمصادفة، قرب الأجساد التي تشيخ والأعمار التي تمضي على غفلة منا؟ تلك الابتسامة لا تقول حقيقتها، بل حقيقة الجروح التي تختفي وراءها. يد الشاعر مفتوحة أمامنا، وأمامنا البحر، هادئ ومنبسط، وفوقه النجوم، جميع النجوم بلا استثناء، تنظر إلينا وتُعَمّق حاجتنا إلى الصمت.