في إحدى الحلقات النقاشية في منتدى دافوس الاقتصادي الأخير في سويسرا، رفض رئيس الوزراء المصري الدكتور حازم الببلاوي الادعاءات بوصف نائبه الأول وزير الدفاع والإنتاج الحربي المشير عبدالفتاح السيسي، المرشح لمنصب الرئاسة، بالديكتاتور، نافياً أن يكون تكراراً لنموذج الرئيس المخلوع حسني مبارك، ومؤكداً أن تجربة السيسي ستكون أقرب إلى نموذجي كل من الجنرال شارل ديغول في فرنسا والجنرال دوايت أيزنهاور في أميركا، واللذين كانا من أبطال الحرب العالمية الثانية في بلديهما ثم أضحيا رئيسين بعدها. ولفت الببلاوي إلى أن السيسي يتعرض مثلهما لضغوط شعبية هائلة كي يترشح لرئاسة مصر وانتشالها من المحن والاضطرابات التي ألقت بظلالها على شعبها. بهذه المقاربة، يكون الببلاوي سلّط الضوء على ما يذهب إليه مراقبون كثر من مقارنة موقف السيسي من الرئاسة في مصر هذه الأيام بحالتي أيزنهاور وديغول عقب الحرب العالمية الثانية. وبغير عناء، في وسع المدقق بالحالات الثلاث أن يلمس بعض جوانب الاتفاق ويلحظ مكامن أخرى للاختلاف والتباين. ففي ما يخص جوانب التشابه أو التلاقي، يمكن القول إنه علاوة على كون الثلاثة شخصيات وقيادات عسكرية مرموقة، تجمع السيسي بكل من أيزنهاور وديغول خصوصية الظرف التاريخي المتمثل في مواجهة بلدانهم تحديات (داخلية وخارجية) جساماً في ظروف شديدة الصعوبة وتوقيت بالغ الحرج، إضافة إلى وجود ترحيب أو مطلب شعبي ملح لهم بالترشح الى الرئاسة وتحمل المسؤولية لإنقاذ البلاد من أخطار محدقة والخروج بها من النفق المظلم، ما يعني أن التاريخ العسكري المشرّف والناصع للثلاثة كان بمثابة أوراق اعتماد لهم للولوج بقوة وثبات إلى عالم السياسة والوصول إلى سدة السلطة والحكم في بلادهم عبر الأقنية والآليات الديموقراطية المتعارف عليها عالمياً. ففي حين شغل السيسي منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع والإنتاج الحربي، خرجت غالبية الشعب المصري مؤيدة له ومطالبة إياه بالترشح الى الرئاسة بعدما استجاب نداء الجماهير في 30 حزيران (يونيو) الماضي وجنّب العباد والبلاد حرباً أهلية محققة. وبعدما انتقل أيزنهاور من منصب القائد العام للقوات المسلحة الأميركية ليتولى قيادة قوات حلف الناتو في باريس، طفق الحزبان الجمهوري والديموقراطي يتباريان لإقناعه بالترشح عنهما لخوض الانتخابات الرئاسية، لكنه فضّل الحزب الجمهوري وقوبل ترشحه بترحيب واسع على مستوى الحزبين على السواء. أما الجنرال ديغول، فقد تزعم حركة التحرر الوطني لبلاده من الاحتلال النازي، وتمكّن عام 1944 من أن ينال اعترافاً واسع النطاق كزعيم سياسي لحركة المقاومة الوطنية. وفي منتصف ذلك العام، حَوّلَ لجنة الحرية الوطنية إلى حكومة موقتة لجمهورية فرنسا، ودخل باريس في 25 آب (أغسطس) من العام نفسه كزعيم منتصر. ومنذ منتصف نيسان (أبريل) 1958 إلى أواخر أيار (مايو) من العام ذاته كانت فرنسا في حال هي إلى الانهيار السياسي أقرب، حتى سَرَت أنباء عن تحركات وترتيبات عسكرية من القوات الفرنسية التي كانت ترابط في الجزائر بغية القيام بانقلاب عسكري واحتلال باريس. الأمر الذي دفع ديغول إلى تأسيس الحزب الديغولي أو «الاتحاد من أجل الجمهورية الجديدة»، وحينما أُجريت الانتخابات التشريعية منتصف العام، فاز الحزب بغالبية كاسحة، وعندما تلتها الانتخابات الرئاسية في كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته وخاضها ديغول إثر إلحاح شعبي، حصل على 78 في المئة من أصوات اللجنة الانتخابية. وكانت ملابسات ترشح ديغول الى الرئاسة الفرنسية مشابهة لترشح السيسي، حيث كانت فرنسا تعاني ارتباكاً سياسياً وأمنياً شديدين، وكان ديغول بمثابة المخلّص والمنقذ بالنسبة إلى الشعب الفرنسي. وفي ما يتصل بمكامن الاختلاف، تطل الخبرة السياسية برأسها كأحد أبرز الفروقات ما بين المشير السيسي وكل من أيزنهاور وديغول. فعلى رغم أن الأخيرين كانا عسكريين محترفين حققا نجاحات عسكرية هائلة لبلادهما إبان الحرب العالمية الثانية ضد قوات النازي على نحو ربما لم يتح بالمقدار ذاته للمشير السيسي بحكم طبيعة أو خصوصية المراحل التاريخية التي عايشها كل منهم، إلا أن أيزنهاور وديغول وإضافة إلى إنجازاتهما العسكرية الرائدة نالا نصيباً، لا بأس به، من العمل السياسي والنشاط المدني حيث ترعرعا في ربوع وأروقة أحزاب وحركات سياسية اكتسبا خلالها خبرات سياسية مهمة أهّلتهما لتحمل مسؤوليات حكم بلديهما لاحقاً والتحليق به في آفاق أرحب وأسمى عبر تعزيز دورهما الإقليمي وتعظيم مكانتهما العالمية. فالجنرال أيزنهاور، الذي شغل منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية في عهد هاري ترومان عام 1951، ثم أصبح بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، أول قائد أعلى لقوات حلف «الناتو» في أوروبا، بدأ ينخرط في العمل المدني بعد أن ترك الخدمة العسكرية وقيادة الناتو عام 1951 لينضم إلى صفوف الحزب الجمهوري، ثم ليستهل عمله المدني برئاسة جامعة كولومبيا. وبعد عامين من العمل المدني والسياسي تقدم للترشح الى الرئاسة على مبادئ الحزب الجمهوري ليغدو الزعيم السياسي الناهض والقائد العسكري الفذ المعروف باسم «آيك»، هو الرئيس الرابع والثلاثون للولايات المتحدة خلال الفترة من 1953 إلى 1961. أما الجنرال ديغول، فقد كان قريباً من السياسة بحكم انخراطه في الحركة الوطنية الرامية إلى تحرير فرنسا من النازي وإعادة بنائها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وفي مطلع خمسينات القرن الماضي، قام بتكوين منظمة تجمع الشعب الفرنسي حملت اسم «تحالف قومي»، لكنها لم تحقق الغرض منها، ثم شكّل بعد ذلك الحزب الديغولي المسمّى «الاتحاد من أجل الجمهورية الجديدة»، والذي خاض الانتخابات التشريعية التي أُجريت عام 1958 وحصد غالبية لافتة. وبعد استجابته مطلب الجماهير الغفيرة بالترشح، خاض ديغول الانتخابات الرئاسية التي أجريت بعدها بأسابيع ليحقق فوزاً مؤزّراً ويصبح رئيساً لفرنسا في كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته، ثم ليبدأ مساعيه السياسية الحثيثة لتأسيس ما يعرف بالجمهورية الفرنسية الخامسة. ثمة متغير آخر غاية في الأهمية بهذا الصدد، ففي سعيهم الى حمل أيزنهاور وديغول للترشح الى الرئاسة، حرص الأميركيون والفرنسيون على ألا يكون ذلك الإلحاح الشعبي على شخصيات بعينها مدعاة لتهيئة الأجواء من أجل ترسيخ مبدأ عبادة الفرد أو صناعة ديكتاتور. لذا، خاض الجنرالان انتخابات رئاسية تتوافر فيها شروط التنافسية والتعددية فضلاً عن أعلى مستويات الشفافية والنزاهة، طارحين برامج ومشاريع انتخابية واضحة وشاملة وجذابة. ولم يرتكن أي من الجنرالين إلى تاريخه العسكري العريق أو إنجازاته العسكرية الرائدة واللافتة إبان حقبة عملهما في جيوش بلادهما، وإنما حرص كل منهما على ابتكار ركائز وأسس جديدة لشرعية الحكم والإدارة السياسية عبر بناء رصيد إضافي من الإنجازات السياسية والاقتصادية والحضارية لا يقل أهمية ونجاعة عن سجل انجازاتهما العسكري. * كاتب مصري