يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، فمدينة طريف التي تقع في أقصى شمال المملكة العربية السعودية وأنشئت عام 1945 تقريباً لتكون آخر محطة لدفع النفط إلى لبنان من الأراضي السعودية، ستعود إلى الواجهة الاقتصادية ليس فقط على المستوى المحلي، بل على المستويين الإقليمي والدولي، فبعد أن كانت أكبر منفذ بري للمملكة، ومن أوائل المناطق التي أنشئ بها مطار دولي تلاشت أهميتها بعد توقف ضخ النفط عبر خط التابلاين (خط الأنابيب عبر البلاد العربية)، الشركة المتفرعة من شركة أرامكو التي كانت مهمتها نقل النفط من منابعه في المنطقة الشرقية إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وتحديداً في مصب الزهراني في لبنان، ونقل منفذ الحدود والجمرك منها إلى الحديثة في القريات، لكن هذه الأهمية عادت إليها مع إنشاء مدينة وعْد الشمال. تتناقل العديد من أدبيات أهل الشمال اسم «أم وعال» وهي المرتفع الذي يقع إلى الشمال الشرقي من طريف، ويبعد حوالى 20 كيلومتراً، وسميت «أم وعال»، لكثرة غزال الوعل فيها سابقاً، وجنبها تقع وعيلة مرتفع أصغر منها، فلم يكن يخطر ببالهم أن هذا الموقع الذي كان مراعي لإبلهم ومعلم لقصائدهم أن يتحول مدينة اقتصادية ومن أهم المشاريع التنموية في شمال المملكة، ورافداً اقتصادياً من روافدها. ليس هناك أدنى شك أن مشروع مدينة وعْد الشمال سينهض بالمنطقة نهضة غير مسبوقة، تضاهي النهضة التي قامت بسبب «أرامكو»، وقامت على إثرها مدن الشمال من رفحا إلى طريف، مروراً بعرعر، لأن حجم الاستثمارات التي رُصدت لهذه المشروع تصل إلى أكثر من 36 بليون ريال، ستنعكس آثارها على مناطق الشمال كافة، بل وتشمل مناطق الشرقية التي ستصدر هذه المنتجات منها، ولذلك ستكون هذه المدينة رافعة رئيسة من روافع اقتصاد المنطقة والدولة كذلك، إذ إن معظم منتجات مدينة وعْد الشمال مرتبطة بالطاقة والبتروكيماويات التي لا يتوقف الطلب عليها محلياً وإقليمياً وعالمياً، وتزداد أهميتها يوماً بعد يوم. كما أن وجود مصانع وخدمات رئيسة في هذه المنطقة سينشأ جيلاً جديداً من الخبراء والفنيين، مثلما فعلت «أرامكو» أيام التابلاين، فمن المتوقع أن يضخ هذا المشروع، حوالى أكثر من 6300 وظيفة، عدا الوظائف في المشاريع الأخرى الملحقة أو غير المباشرة. من العوامل المساعدة والمبشِّرة لنجاح مشروع وعْد الشمال نوعية المنتجات التي سينتجها، فوجود خام الفوسفات وبكميات كبيرة، إلى جانب حقول الغاز المتوافرة في منطقة حزم الجلاميد ومناطق أخرى مجاورة تجري فيها عمليات تنقيب حثيثة، يعزز نجاح المشروع بشكل كبير، ويخلق فرص العمل لقيام مدينة للصناعات التعدينية، إضافة إلى أن الدولة خصصت لها أرضاً بمساحة 440 كيلومتراً مربعاً. وبحسب تصريحات المسؤولين في شركة معادن «فإن المدينة ستكون واحدة من أكبر مجمعات الفوسفات في العالم بكلفة 21 بليون ريال، والعمل جارٍ الآن على تنفيذ أكبر مشروع متكامل للألومنيوم في العالم بكلفة 40 بليون ريال، إضافة إلى تطوير مشاريع الذهب والمعادن النفيسة». بالنظر إلى الطاقة الإنتاجية الإجمالية لمصانع مدينة وعْد الشمال وتنوعها نجد أن حجمها ليس بالبسيط فهي تبلغ وبحسب تصريحات مسؤولي شركة معادن حوالى 16 مليون طن سنوياً، لإنتاج مركزات الفوسفات وحامض الكبريتيك وحامض الفوسفوريك، ومصانع لإنتاج أحادي وثنائي فوسفات الكالسيوم المستخدمة في صناعة الأعلاف الحيوانية، وكذلك مصانع لإنتاج حامض الفوسفوريك المركز المستخدم في الصناعات الغذائية، ومادة بولي فوسفات الصوديوم الثلاثية المستخدمة في صناعة المنظفات والاستخدام الصناعي، لذلك نرى من أسماء هذه المنتجات أن «وعْد الشمال» ستكون من المشاريع الحيوية والاستراتيجية للدولة. المعلومات التي نستقيها من تصريحات مسؤولي وزارة النفط وشركة معادن تبشر ببزوغ فجر جديد في منطقة الشمال سيعم خيره أنحاء المملكة كافة، فهناك مشاريع عدة تنوي الشركة إنشاءها، كمصنع لإنتاج الأمونيا، ومصانع لإنتاج الأسمدة الفوسفاتية والمركبة في مدينة رأس الخير للصناعات التعدينية في المنطقة الشرقية، حيث تم اختيار المكان ليكون قريباً من موانئ التصدير، ويكون مكملاً لصناعات مدينة وعْد الشمال التعدينية. إن التاريخ المقترح عام 2016 لبدء تشغيل مصانع «معادن» في مدينة وعْد الشمال هو قريب ومبشِّر، ولذلك أعتقد بأن المنطقة ومنذ الآن ستشهد نشاطاً تجارياً وعقارياً جيداً، وقيام مشاريع بنية تحتية تساعد على ازدهار المنطقة، وأيضاً ستكون نقطة تحول في نهضة شمال السعودية، ورافداً رئيساً لاقتصاد الدولة، فتذكرت الأيام التي كنا نقطع تلك المسافات والمناطق مسافرين إلى الرياض أو الدمام أو الكويت، ونشاهد رعايا الإبل، وهي إما واردة على طريف أو صادرة منه، وننظر إلى يسارنا ونحن باتجاه الشرق فنرى جبل أم وعال وبجانبه وعيلة. لم يكن يخطر ببالنا أن هذين المرتفعين ومنطقتهما سيكون لهما شأن كبير في الخريطة الاقتصادية للمملكة العربية السعودية، وسيعيدان الحياة والنمو لمدينة طريف وللمنطقة الشمالية بأكملها، بعد أن تراجعت أسهمها في نهاية الستينات، ولذلك سيكون مشروع ومدينة وعْد الشمال درة لمنطقة الشمال بأكملها. يقولون إذا اجتمعت الإرادة السياسية القوية ورأسمال والمواد الخام سيكون النجاح حتمياً في أي مشروع، فما بالك إذا كانت جميع هذه العناصر متوافرة في مشروع وعْد الشمال، فمن الطبيعي أن يكون النجاح مصيره بإذن الله. * أكاديمي سعودي. [email protected]