لا يبالغ الأخضر الإبراهيمي إذا قال انه قادر على التعايش مع «جنيف50» أو «جنيف 60» من جولات التفاوض بين السلطة السورية و «الائتلاف الوطني». فالمبعوث الدولي- العربي يُطمْئِن الأميركيين والروس إلى أنه هيّأ نفسه لمهمة طويلة، ولن يخيِّب أملهم بمنع امتداد الحريق السوري الهائل إلى خرائط تترنح على وقع مواجهات صاخبة. صبر الإبراهيمي ب «الأطنان»، كأطنان الترسانة الكيماوية التي حاول النظام السوري التلكؤ في تسليمها، لعل مجريات الحرب تتبدّل، فيحتفظ ببعض غاز الخردل أو السارين، ليحمي نفسه بعد إخماد الثورة... ويناور مع الغرب مجدداً بورقة الجبهة الهادئة مع إسرائيل. صبر النظام أيضاً حبلُهُ طويل ولو التفَّ على أعناق آلافٍ آخرين، فيما يظن أن ورقة التنظيمات والفصائل «الإرهابية» العابرة للحدود، ستبقى رابحة حتى الفصل الأخير، والرهان لديه هو على نفاد صبر الغرب، إذا سجّلت دمشق انتصاراً «كاسحاً» على المعارضين. عملياً، يمشي مؤتمر «جنيف2» بلا قدمين، كسيحاً حوّله صخب النظام الى ميدان ملاكمة، لمجرد كسره «الحصار السياسي والإعلامي». وفده ووفد المعارضة، كلٌّ يغنّي على ليلاه، فيتدرّب الإبراهيمي على مزيد من الصبر، ويواصل النظام التدرُّب على مزيد من الخراب واستئصال السوريين بالبراميل المتفجّرة. وهل مصادفة أن تتساقط البراميل مع بدء كل جولة «إعلامية» في جنيف، وتتدرّج عنفاً وإبادة حتى ختامها؟ يمشي «جنيف2» كسيحاً، لم يباغت النظام بالتحرك في مجلس الأمن لإصدار قرار في شأن تسهيل تَلقّي المحاصَرين في سورية إغاثة تقيهم الموت جوعاً إن لم تُبِدْهُم البراميل والصواريخ. فمشروع القرار الجديد فرصة أخرى لاختبار صمود الروس في جبهة «الممانعة»، وعدم تخلّيهم عن تقديم مظلة حماية لتمديد عمر النظام السوري، على الأقل حتى موعد انتخابات الرئاسة في الصيف. ولا شيء لديهم يستدعي الخجل من ورقة «الفيتو» ولو للمرة الرابعة، بذريعة الفخ الذي ينصبه الغرب في مشروع القرار، ليبرر به لاحقاً تدخّلاً عسكرياً. وأما الرهان على المؤتمر الوزاري الروسي- الخليجي المرتقب في الكويت، وإمكانات تبديله حسابات الكرملين وحضانته نظاماً بلا شعب يحيك الأساطير دفاعاً عن أمن الشرق والغرب من أَكَلَة الأكباد والقلوب... ذاك الرهان أقرب إلى تمنّيات ما زالت موسكو تثبت أنها من المحظورات في سياسة استعادة هيبتها العالمية. ولا يُقلق روسيا بالطبع توافق الشراكة الأميركية- الفرنسية المتجددة، إذ لا يتعدى خط الحل السياسي، فيما تلتزم واشنطن خفض الضجيج حول «لا شرعية» بقاء النظام السوري، أو استحالة اعتبار الرئيس بشار الأسد شريكاً في الحل أو جزءاً منه. وقد يكون الطارئ في احتفالية قمة الرئيسين الأميركي باراك أوباما والفرنسي فرنسوا هولاند، الإطلالة من ميدان الحرب السورية وبوابة «جنيف2» على نافذة لبنان الذي يخشى هولاند انزلاقه الى حرب أهلية، تحت وطأة شظايا القتال وراء الحدود. جنيف أبعد بكثير من إشكالية البيضة والدجاجة، وأيهما أولاً، «حل وطني» لمكافحة «الإرهاب» في سورية أم تشكيل هيئة الحكم الانتقالية، أم توازيهما على مسار الإبراهيمي؟ فلا معارضة بلا ثورة، ولا ثورة في مفهوم النظام بل «إرهاب». قد يكون صحيحاً أن تفاؤل المبعوث الدولي- العربي بصبره، بالأطنان، ولكن أي تدخل يطلبه من الروس والأميركيين اليوم يقوى على إقناع وفد الحكومة السورية بتبديل أولويات أعلن مسبقاً أنها خط أحمر؟ صحيح كذلك ان مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية جيمس كلابر لم يخطئ بوصفه الحرب في سورية بأنها كارثة، لكنه يُدهِش السوريين جميعاً، خصوصاً المحاصَرين تحت وابل البراميل السود وأمام هول المجاعة «الوطنية»، إذ يستنتج أن من مفاعيل الكارثة «شراً مستطيراً»! فأي شرور أقسى من إبادة تحت الخراب، وإذلال المحاصَرين ليكفّروا كل المعارضة، ويكفروا بالتغيير؟ على المسار الأميركي ذاته، يجتهد كلابر الذي أحصى 150 جماعة مسلحة تقاتل في سورية، و7500 مقاتل أجنبي من 50 بلداً، بعضهم حتماً ينتمي الى «القاعدة»، ولا بد أن يفكّر بضرب أميركا وأوروبا. فالأولوية إذاً منع هذه الضربة، ولو اقتضى ذلك تبديل أولويات المعارضة، خطوة خطوة. وأما تلويحها بوقف التفاوض، فدونه الضغوط الأميركية- الأوروبية، لذلك لا بد من جنيف مهما طال صبر الإبراهيمي، بالأطنان، كأطنان براميل الإبادة.