لم تهدأ الضجة بعد حول خسارة وزير الثقافة المصري فاروق حسني في انتخابات المدير العام لمنظمة اليونيسكو، وعكست هذه الانتخابات بحق حجم الهوة بين الشمال والجنوب والتي لا يمكن إخفاؤها ببعض الخطب والكلمات أو مشاهدة الأحضان والقبلات بين الزعماء. وبغض النظر عن مظاهر الغضب المصرية رسمياً ونخبوياً وربما شعبياً أو «حفلات الشماتة» لدى بعض الأوساط الغربية أو حتى بين كارهي فاروق حسني داخل مصر وبعض الدول العربية، ومع الإقرار بأن الولاياتالمتحدة قادت تحالفاً نجح في إسقاط حسني ومنعه من الوصول إلى المنصب الدولي الرفيع، وأن دولاً وعدت مصر بمنح حسني أصواتها ثم تراجعت أو حتى نكصت بالوعد، وأن وسائل إعلام تبنت حملات وصلت إلى حد التشهير والافتراء على الوزير المصري، فإن للهزيمة أسباباً أخرى أيضاً رغم أن حسني خاض معركة مشرفة. تهيأت للوزير المصري كل الإمكانات التي لم تتهيأ لمرشح مصري في أي انتخابات دولية سابقة، فالرئيس حسني مبارك سانده بقوة وقدم له كل التسهيلات الممكنة ووفر له إمكانات الدولة وأجرى اتصالات وعقد لقاءات من أجل تأمين أصوات دول أعضاء في المكتب التنفيذي للمنظمة. كما أن وزارة الخارجية المصرية تبنت الملف مبكراً و»اشتغلت» عليه بقوة. حصل حسني في الجولة الأولى على 22 صوتاً ما يعني أن باقي المرشحين حصلوا على 36 صوتاً أي أن غالبية الأصوات لم تكن في مصلحته، وكان لازماً توقع عدم استمرار اثنين من المرشحين من أوروبا حتى النهاية، فقواعد اللعبة الانتخابية كانت تقضي ابتعاد احدى المرشحتين وذلك وفقاً للمنطق الذي اتبعه حسني نفسه في الانتخابات، حيث اعتمد على وقوف العرب والمسلمين والأفارقة خلفه، والمنطقي أيضاً أن يقف الأوروبيون خلف مرشح واحد في النهاية. قدم حسني نفسه باعتباره مرشح الجنوب وأنه ممثل العرب والمسلمين والأفارقة الذين اتحدوا خلفه، ما يعني أن منافسيه كان يحق لهم أيضاً أن يتبعوا الاسلوب نفسه. الفرز الأولي حدث منذ الإعلان عن ترشيح الوزير المصري، فمقابل العربي هناك الغربي ومقابل المسلم هناك المسيحي ومقابل الأفريقي هناك الأميركي والأوروبي. وعند حساب موازين القوى تجيء الأسئلة: هل لدى العرب والمسلمين والأفارقة قوة تعادل قوة الغرب؟ هل لديهم الأموال نفسها؟ هل يملكون النفوذ نفسه؟ هل لديهم قواعد عسكرية منتشرة في دول العالم؟ أو جيوش تعادل الجيوش الأميركية أو الأوروبية؟ هل يمنحون معونات اقتصادية تصرف على شعوب تحتاج أن تأكل؟ ان الحديث عن تسييس الانتخابات هو إقرار بواقع ليس فيه جديد، ومن السذاجة استبعاد السياسة عن أي انتخابات لمنظمة دولية، والرئيس مبارك أدرك ذلك مبكراً واستخدم ثقله وعلاقاته وتأثيره ومكانته لمساندة المرشح المصري، وكثيرين يرون أنه لولا ذلك لما نال حسني 22 صوتاً في المرحلة الأولى من الاقتراع في ضوء الحملة ضده ورفض الغرب له. ألم يتحدث مبارك مع ساركوزي والملك خوان كارلوس؟ ألم يستقبل نتانياهو ويطلب منه وقف الحملة الإسرائيلية ضد حسني؟ انها السياسة التي أدرك مبارك مبكراً أنها العنصر الأكثر تأثيراً في أي انتخابات لمنظمة دولية، لكن في انتخابات اليونيسكو لم تكن كل أوراق اللعبة السياسية في الأيدي المصرية. ألم يكن انتخاب الياباني ميتسورا انتخاباً سياسياً؟ ألم يفز على مرشح سعودي رغم الثقل الاقتصادي السعودي وعلى مرشح مصري لم تسانده السياسة المصرية؟ ألم يكن انسحاب الولاياتالمتحدة من اليونيسكو لنحو 20 عاماً بدوافع سياسية؟ لا شك أن تصريح الوزير حسني حول حرق الكتب الإسرائيلية استُغل ضده وعندما اعتذر عنه في «لوموند» لم يصدقه أعداؤه، كما أن حسني بنى تاريخه ومكانته بين المثقفين في مصر على موقفه المعارض للتطبيع مع إسرائيل، وبعد أكثر من عقدين دفع ثمن موقفه (المشرف) ولم يسعفه الوقت أو الظروف أو الأعداء لتحسين مواقفه لديهم. ان ما حدث حدث لكن المهم أن نستفيد جميعاً من التجربة...من السهل على الإعلام المصري والعربي أن يهاجم أميركا وإسرائيل والغرب عموماً، لكن من المهم فهم قواعد الانتخابات في أي منظمة دولية، وأن ندرك أسرار اللعبة ولا نخوض المنافسة معتمدين على الأسلحة نفسها التي يتسلح بها المنافسون لأنهم الأكثر قدرة على صنع الأسلحة...واستخدامها.