تقتضي إعادة بناء الوطنية السورية على مرتكزات ومقدمات جديدة، تتجاوز واقع تراصف الجماعات ما قبل الوطنية، وترتقي إلى حجم التضحيات الأسطورية التي قدمها السوريون طيلة خمسين عاماً، النظر إلى جنيف -2 أو 3 (بغض النظر عن رقمه)، بعين «السياس- تاريخ»، وليس بعين سياسوية ذاتوية. جنيف ليس مؤتمراً يعكس موازين القوى العسكرية ميدانياً، كما يراه البعض، بل ينبغي أن يعمل السوريون كي يكون مدخلاً لسيرورة تأسيس للسياسة، بوصفها عملاً، يتجه إلى إنضاج مقدمات الوطنية. فأزمة تشكل الوطنية السورية ليست برجحان موازين القوى العسكرية لمصلحة النظام، لا بل يذهب تشكّل المسألة الوطنية، أساساً، على طول الخط باتجاه نزع العسكرة وثقافتها وسيكولوجيتها. ثم، ليس دقيقاً ما يروج له إعلامياً: بأن النظام بعد معركة القصير، التي حسمتها ميليشيات حزب الله، هو في الموقع الأقوى، فهذا الكلام الإعلامي يصح في حالة حرب بين دولتين، وليس بين شعب يتطلع للخلاص من الاستبداد، وسلطة تريد الحفاظ على سلطتها كغنيمة. فأهم عناصر ميزان القوى انهيار مرتكزات «الدولة-التسلطية» منذ الأشهر الأولى للثورة، وفي مرحلتها السلمية، وعدم قدرة السلطة على إعادة تركيب بنيتها التاريخية (نواة أمنية وعسكرية مذهبية وأغلفة رخوة ملحقة بتلك النواة، تضم باقي الطوائف والمذاهب والعشائر)، وتبقي المجتمع في حالة من الانقسام المسيطر عليه بالاستبداد المغطس في الأيديولوجية القومية الرثة وأطره التنظيمية الأكثر رثاثة. هنا يكمن مأزق الوطنية السورية، الذي هو أكبر من المعارضات جميعها ومن النظام أيضاً. ويتمثل هذا المأزق: أولاً، بتداعي مرتكزات «الدولة التسلطية» التقليدية باستثناء القوة العارية والمتوحشة. وثانياً، وجود معارضات مذررة ذات نزوع إعلامي متضخم، عاجزة عن تشكيل حقل سياسي معارض موحد. وثالثاً، سيطرة ميدانية للقوى الإسلامية المسلحة، التي تجمع بين روح التفاني في مواجهة قوى السلطة والمليشيات الحليفة لها، وبين رؤية «سياسية» ما دون وطنية، حصرية، استبدادية، وحتى ما دون مستوى «أدلوجة الدولة»، واعتقال هذه التنظيمات للناشطين والفاعلين السياسيين في الثورة دليل على إعادة إنتاجهم للإشكالية البعثية بقميص إسلامي. ورابعاً، نتيجة العوامل السابقة، جرى طرد روافع النهوض الوطني السوري، وأعني: الناشطين الميدانيين والإعلاميين والمعارضين السياسيين والتنسيقيات ومختلف فعاليات الحراك المدني، إضافة لملايين المهجّرين في الداخل والخارج الذين هم أهم حامل للمشروع الوطني. لذا فالسوريون يحتاجون إلى الإرادة الدولية لوقف الحرب، على رغم البرودة والتردد التي أبدتها، والبدء بعملية التحول السياسي المعقدة والطويلة، ويحتاجون هذه الإرادة الدولية، كي تستطيع حوامل السياسة التي «طفشتها» قوى الحرب العودة إلى مجال الفاعلية، ويحتاجونها في الضغط على الدول الداعمة للمليشيات لوقف دعمها فور البدء بسيرورة سياسية، ويحتاجون الإرادة الدولية للتعامل مع إيران، لإيجاد تسوية لسلاح حزب الله، الذي أصبحت تسويته ضرورة وطنية سورية، فضلاً عن كونه ضرورة وطنية لبنانية، وصارت تسويته ضرورة بعد تحوله إلى «سلاح للإيجار»، وصار عامل توتر مذهبي في الإقليم وعبئاً لم يعد يحتمل على سورية ولبنان. ثم، من يستطيع كسر توازن الضعف في الميدان الذي يدمر سورية باطراد، ومن يستطيع لجم التنظيمات الإسلامية التي تهدد كل من يشارك في مؤتمر جنيف بالويل والثبور وعظائم الأمور غير تكّون إرادة دولية فاعلة، تدعم السوريين في بلورة مشروع وطني مكّتل وموحد. لذا يجب أن تحرص المعارضة السورية على تحويل جنيف إلى بداية لعملية تحول سياسي بالتعاضد مع الإرادة الدولية، التي برزت في حنيف2، وذلك بالترفع عن خلافات الشخصنة والعقلية الشللية والفصائلية، وتوسيع قاعدة المشاركين بما تمليه المصلحة الوطنية، وخلق عملية مركزة معاكسة لواقع تشظي الحقل السياسي المعارض، والطلاق مع ظاهرة «الخفة الإعلامية» والمهاترة، والكف عن توليد أسماء لأطر تنظيمية بلا وزن (أطر منطادية)، فمجموع الأصفار يساوي صفراً. والوطنية، بوصفها فضاء يجمع السوريين جميعاً، وتعاكس النزعات الطائفية والمذهبية والإثنية، هي، أساساً، ذات محتوى إنساني وبعد كوني متناقض مع الخصوصية والمحلوية والحزبوية التي كانت خيارات الاستبداد، وإكسابها هذا المحتوى مرهون بتكون إرادة دولية وازنة حولها، تجعلنا في المستقبل قادرين على تجاوز «سياسة» المحاور والأدوار الإقليمية الممانعة. * كاتب سوري