محزنة محاولة رسم صورة للنظام السوري بالاعتماد على صورة وفده المفاوض في جنيف. ومحزن أكثر، رسم خريطة العلاقات بين أعضاء الوفد وبين «القيادة» وما يمثل كل منهم في خريطة المصالح والولاءات التي حاول من شكّل الوفد تظهيرها أو إخفاءها. رسالة النظام الأولى كانت تعيين وزير الخارجية وليد المعلم رئيساً للوفد. مهمة الوفد إذاً، تتعلق بشأن خارجي، وتعكس فهم النظام لما يجري في بلاده والذي تسميه وسائل الإعلام السورية الرسمية «الأزمة»: إنها تدخل خارجي أو «حرب تشن على سورية منذ ثلاثة أعوام»، وفق اللازمة «المانترا» التي كررها كل أعضاء «وفد الجمهورية العربية السورية». وهذه لازمة ثانية. وكأن التمسك بتعريف المهمة وصفتها والاسم الرسمي للجهة التي انتدبت المعلم ورفاقه، تأكيد لشرعية حكم بشار الأسد وسلامة نهجه في مواجهة «الإرهاب» الذي ترسله قوى عربية ودولية إلى الأراضي السورية. عليه، يمثل وفد المعارضة جهات أجنبية جاء الوفد إلى مونترو يتفاوض عبرها مع مشغّليها الأجانب، في كيفية إنهاء الحملة الإرهابية التي تشنها على السوريين. اللائحة الرسمية التي نشرتها وكالة «سانا» بأسماء أعضاء الوفد جاءت مقتضبة، بل متجهمة. المعلم نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية رئيس للوفد. عمران الزعبي. فيصل المقداد. بثينة شعبان... مع المناصب الرسمية والوظيفية ضمن الوفد. التأمل في السِّيَر غير الرسمية لهذه الشخصيات يوفر ملاحظات تبدو كأنها وضعت في مقدم الصورة لتبهر عين كل قارئ. الانتماء الطائفي للشخصيات الرئيسة (المعلم والزعبي والمقداد) يرمي إلى تكذيب فكرة حكم الأقلية الطائفية. فهؤلاء الثلاثة ينتمون إلى الطائفة السنّية التي تقول رواية الثورة السورية إنها كانت هدفاً لاضطهاد حكم آل الأسد ومواليهم منذ نيفٍ وأربعين عاماً. بثينة شعبان ولونا الشبل تعلنان بوجودهما أن «سورية الأسد» تخص المرأة بمكانة رفيعة في الشأن الديبلوماسي والسياسي («المثقفة» شعبان و «الحسناء» الشبل) في حين أن القوى التكفيرية الهاجمة على البلاد والمدفوعة من دول نفط وغاز تحرض على قمع النساء وإرجاعهن إلى البيوت والمخادع. أما أسقف القدس هيلاريون كابوجي الذي رضي أن يقدم سمعته كمناصر للقضية الفلسطينية ومناضل في سبيلها على مذبح استغلال نظام الأسد، بعد نشاطات ومواقف صبت في خانة تأييد الحكم منذ بداية الثورة، فأُريد له أن يظهر الوجه التعددي المتنور للحكم القائم في دمشق، في مقابل المتوحشين الإسلاميين في «داعش» و «النصرة» اللتين تحتكران الحضور الميداني - في رأي المتحدثين باسم الوفد الرسمي السوري - في المناطق التي خرجت من قبضة النظام وأجهزته، إضافة إلى كل المسلحين الذين لا همّ لهم إلا قتل المسيحيين واحتجازهم رهائن. ولا بأس إن عاونت شعبان والشبل كابوجي في مهمة تمثيل الأقليتين العلوية والدرزية. لعل ما سبق يختصر مضمون الرسائل التي رغب «العقل» المقيم في دمشق في توجيهها إلى العالم. لكن نظرة ثانية إلى الثلاثي المعلم - المقداد - الزعبي، تقول شيئاً أبعد من الصورة التي يراد التركيز عليها. فليس هناك شيء متميز في السيرة المهنية لأي منهم. إنهم أبناء الطرق المعتمة التي يرغِم النظام الراغبين في الصعود في مراتبه، على سلوكها. ثلاثة من ال «أباراتشيك» وفق التعبير السوفياتي عن رجل الجهاز الحزبي – الأمني - الرسمي. لا يستطيعون العيش خارج ظل التوازنات التي سمحت لهم بالتسلق بكفاءاتهم العادية وشخصياتهم الباهتة. بكلمات أخرى، هم النتاج الطبيعي لهذا النظام ولثقافته ولمنظومة التطويع والإخضاع التي يمارسها على مواطنيه. وانتماءاتهم الاجتماعية تتكفل بشرح باقي الصورة. من جهة ثانية، غاب أمران مهمان عن ذهن من تولى تشكيل الوفد. الأول أن العالم الذي يرغب بمخاطبته بهذه التشكيلة لا يبالي بالرسائل الرمزية قليلاً أو كثيراً. وهو يدرك أن الوفد لا يملك صلاحية تفاوضية تذكر، وأنه جاء بناء على رغبة روسية. ولعل هذا يفسر الهزال الشديد الذي بدا عليه المتحدثون السوريون في كل مرة وضعوا أمام صحافي يطرح الأسئلة البدهية (دهشة شعبان مثلاً في مقابلتها على «سكاي نيوز» من تنكر العالم للمسيحيين واستنكارها في مقابلتها مع «لوموند» لتفضيل الغرب الإرهابيين على حكومتها، مقابل ارتباك الزعبي الدائم الابتسامة المصطنعة، وجلافة المقداد في دفاعه عن إيران....). ويشير كل ذلك إلى فوات تصور النظام للطريقة التي تدار بها السياسات الدولية. الأمر الثاني أن العالم، على رغم خذلانه الشعب السوري وامتناعه عن التدخل لإنقاذه، إلا أنه يعلم وبالتفصيل الممل ماذا يجري على الأرض وأنه لا ينتظر بيانات المصادر المسؤولة التي تنقلها «سانا» ليتعرف إلى الحقائق. كيفية تعامله مع هذه الحقائق مسألة مختلفة. ولعل الوفد السوري كان في انتظار مجموعة من «الزملاء» الذين أتقنوا هزّ الرؤوس بالموافقة وترويج الأكاذيب، ففوجئ بمرآة عملاقة أظهرته بكل عريه وقبحه.