لا أحد يتوقع أن ينتهي «جنيف - 2» سريعاً إلى تسوية تنهي الأزمة أو تضعها على طريق الحل. جل ما رغب فيه اللاعبان الكبيران الأساسيان، الولاياتالمتحدةوروسيا، هو دفع الطرفين المتصارعين إلى الطاولة. ونجحت الديبلوماسية «الجبرية»، كما سماها الوزير جون كيري، في وضع وفدَي النظام و «الائتلاف» في عربة القطار. ليس مهماً بعد الآن السرعة التي ينطلق بها هذا القطار إلى محطته النهائية. الهدف الأول تحقق وهو أن الحل سياسي لا عسكري، وإن كان الطرفان لا يزالان يؤمنان أو يراهنان على الحسم وتحقيق نصر نهائي. مجيئهما إلى مونترو ثم جنيف يعني رضوخهما لضغوط الرعاة الكبار. ويعني أيضاً إقرارهما بأن ثمة طرفين في الأزمة. أي اعتراف أحدهما بالآخر. الخلاف الدولي على تفسير مقررات مؤتمر جنيف الأول قبل نحو سنة ونصف السنة، لم يحسم في افتتاح الجلسة في مونترو. ظل الغموض كما هو. وفد المعارضة أصر على أنه لا يضع شروطاً، بل جاء لتنفيذ ما نص عليه «جنيف - 1». أي التفاهم على تشكيل هيئة الحكم الانتقالية. وهو ما رفضه وفد النظام الذي سعى إلى تحقيق اختراق إعلامي على الأقل بتكرار الحديث عن «المجموعات الإرهابية»، داعياً المجتمع الدولي إلى مساندته في مواجهة هذا الإرهاب. استغل المنبر الدولي لكن مواقف «الأصدقاء ال11» قطعت عليه الطريق. كان يكفي أن تضج وسائل الإعلام الغربية بصور التعذيب التي يمارسها النظام حتى تزيد في إحراج هؤلاء الأصدقاء. لم يعد بمقدورهم التلطي خلف تعابير الغموض التي تحفل بها عادة نصوص القرارات الدولية. حتى الوفد الروسي لم يجد في كلمة وزير الخارجية وليد المعلم ما يمكن أن يخدم موقف داعميه، من روسيا إلى الصين واليابان. جلس الطرفان في غرفة واحدة في جنيف. ولم يتوافر لأي منهما السلاح الذي يريد. لم يعط وفد النظام موافقة واضحة وصريحة على مباشرة البحث في تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية. ولم يتمسك وفد «الائتلاف» بهذا الشرط لبدء البحث. ثمة تفاهم أميركي - روسي على بقائهما إلى الطاولة. نجح الأخضر الإبراهيمي في دفعهما أولاً إلى مناقشة خطوات على المستوى الإنساني. وفد الحكومة السورية لا يضيره البحث في هذا الشق من مقررات «جنيف - 1». فإذا تعذر فرض «ملف الإرهاب» فلا بأس بالملف الإنساني. الهدف هو هو: الرهان على عامل الوقت. وليس أمام المؤتمرين سوى الغرق في إجراءات إيصال المساعدات الإنسانية والطبية وغيرها إلى المحاصرين وما تفرضه من تأمين طرق ووقف للأعمال الحربية... أما وفد المعارضة فيحتاج هو الآخر إلى خطوات على هذا المسار. يهمه انفراج أزمة القابعين تحت حصار مميت في أكثر من بقعة من دمشق إلى حلب مروراً بحمص وغيرها من دساكر وقرى. كان هذا شرطه قبل التوجه إلى مونترو. وأي خطوة إيجابية في هذا المسار تعزز صورته في أوساط الذين اعترضوا ويعترضون على قبوله حضور المؤتمر. وهو يراهن في النهاية على الوصول إلى الاستحقاق الذي يرفضه النظام مهما طال الجلوس، أي تشكيل الهيئة الانتقالية. لم يتوقع ولا يتوقع موافقة حكومة الرئيس بشار الأسد على هذه الهيئة. رهانه إذاً على اقتناع المجتمع الدولي بأن النظام لا يرغب في الرضوخ للقرارات الدولية. يعرف «الائتلاف» أنه لم يكن يحتاج إلى هذا الإصرار على انتزاع موافقة النظام على مقررات «جنيف - 1». بين يديه قرار مجلس الأمن الرقم 2118 الخاص بتفكيك الأسلحة الكيماوية. نص هذا صراحة في فقرته ال16، على أن المجلس «يؤيد تأييداً تاماً بيان جنيف المؤرخ في 30 حزيران (يونيو) 2012، والذي يحدد عدداً من الخطوات الرئيسة بدءاً بإنشاء هيئة حكم انتقالية تمارس كامل الصلاحيات التنفيذية. ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى. وتشكل على أساس التوافق». ويلوّح المجلس في الفقرة 21 بفرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة «في حال عدم الامتثال لهذا القرار». لكنه يعلم أيضاً أن التدابير التي يلوّح بها القرار تتطلب توافق الكبار في مجلس الأمن على التدابير الواجب اتخاذها لولادة هذه الهيئة. الطريق طويل بلا شك. لكن انطلاق المؤتمر سيحدد لاحقاً العوامل والعناصر التي تعرقل التوصل إلى تسوية. هذا في ما يخص الطرفين اللذين وافقا على ركوب القطار، وإن كان كل منهما سيحاول الدفع نحو المحطة التي يريد. ولعل في قائمة المصاعب غياب أطراف كثيرة فاعلة عن جنيف لا سبيل للرعاة الكبار إلى ممارسة الضغوط عليها. ثمة أطياف سياسية واسعة عارضت وتعارض الجلوس مع النظام. ومثلها مجموعات مسلحة فاعلة ميدانياً، ليس تنظيم «داعش» أولها ولا «جبهة النصرة» آخرها ترفع شعار القتال حتى رحيل النظام. ولا يملك طرف محلي أو إقليمي أو دولي وسيلة سياسية للتأثير في قرارتها، لا «الائتلاف» ولا «أصدقاؤه». وهناك إيران والقوى التي تواليها في نصرة النظام غائبة أو مغيبة عن المؤتمر الدولي. بالتالي لن يكون سهلاً على الرعاة الآخرين، خصوصاً الروس، إرغامهم على القبول بأي تسوية لم يساهموا في رسم معالمها. جليٌّ أن الملف السوري سلك مساراً مختلفاً عن المسار الذي أطلقه تفاهم الجمهورية الإسلامية والدول الست الكبرى على تسوية الملف النووي الإيراني. لكن هذا الفصل بين المسارين يظل صورياً. ومهما بلغ التنسيق أو التفاهم بين واشنطن وموسكو، وهو لم يرق إلى كل التفاصيل، فانه لا يمكن تجاهل الدور والتأثير الإيرانيين في الأزمة السورية ومسارها تصعيداً أو تهدئة، بل لا مبالغة في القول إن الارتباط بين المسارين أكثر عمقاً وتعقيداً. وإن أي تقدم على جبهة المفاعلات النووية سينعكس عاجلاً على مفاعيل الأزمة السورية. وأي تعقيد هناك يعني مواصلة القتال الذي يستنزف مقدرات إيران وحلفائها المنخرطين في الميدان، ورفع وتيرة المواجهات بينهم وبين قوى التشدد السنّي على طول ساحة المنطقة من لبنان إلى العراق وحتى اليمن. ولا ريب في أن طهران بدأت تشعر بحرارة النار التي راحت تصيب مصالحها في هذه البلدان الثلاثة. لكن التفاؤل بإمكان تخليها عن الورقة السورية بسهولة ضرب من الوهم. ثمة موازين قوى ومصالح متشابكة ومعطيات دولية وإقليمية فرضت على أصحاب المشروعين المتصادمين في المنطقة، وليس على طهران وحدها سلوك النهج الديبلوماسي. تبقى هذه العقبات في كفة، وشبه استحالة قبول النظام بتوقيع ورقة رحيله في كفة أخرى. لا يمكن النظام الذي لا يواجه ضغطاً عسكرياً بمقدار ما تواجه أطياف المعارضة، ويبدي ارتياحاً إلى دعم حلفائه بالعتاد والرجال، أن يقبل بهيئة انتقالية يعرف سلفاً أنها ستقود إلى رحيله. أفاد وسيفيد طويلاً من غياب أي مشروع تدخل خارجي يبدل في ميزان القوى القائم على الأرض. مثلما يفيد من حرص المجتمع الدولي، وعلى رأسه «أصدقاء» المعارضة على عدم المجازفة بأي خطوة تؤدي إلى انهيار الدولة ومؤسساتها. وأكثر من ذلك حتى قرارات «جنيف - 1» التي دعت إلى تشكيل هيئة انتقالية ربطت تشكيلها بموافقة الطرفين، أي النظام وخصومه! أي أنها أعطت كلاً منهما حق «الفيتو». هذا «الفيتو» الذي عطل ويعطل حتى الآن أي توافق دولي على معالجة الأزمة السورية. الوصول إلى الهيئة الانتقالية دونه محطات من اللقاءات والاجتماعات. لن يكون سهلاً التوصل إلى صيغة مقبولة لإعادة انتاج عقد جديد بين السوريين. لا تكفي طمأنة الولاياتالمتحدةوروسيا والمجتمع الدولي الأقليات، والعلويين بالتحديد. كلف وصول اللبنانيين إلى «اتفاق الطائف» جولات من القتال. وكلف مؤتمرات للحوار بدأت خريف 1983 في جنيف ثم في لوزان ربيع 1984 وانتهت بالطائف في 1989. وهي صيغة لم تبرهن بعد ثلاثة عقود أنها قدمت تسوية دائمة وثابتة. ولا حاجة إلى التذكير بما عانى لبنان وما يعانيه. استهلكت المحاصصة اللبنانيين سنوات وسنوات. وحتى العراقيون الذين «استوحوا» صيغة الطائف يذوقون اليوم مرارة نموذج المحاصصة التي ترسخ هدنات هشة ولا تقيم دعائم دولة راسخة تعلي «المواطنة» فوق أي اعتبار طائفي أو مذهبي أو عرقي. وإذا كانت السرعة سمة العصر اليوم، ولا تحتمل الحرب السورية سنوات وسنوات، فلعل النموذج اليمني يكون أقصر الطرق. فقد استنفد مؤتمر الحوار في صنعاء عشرة أشهر. وانتهى بتشييع «اليمن السعيد» لتقوم «الدولة الاتحادية» بديلاً وحيداً من التفتيت والتقسيم... ولكن، لا شيء يضمن استقرار حدود الأقاليم المرشحة للاشتعال ما دام الحكم هنا وهناك للقبائل والمذاهب. فهل يختار السوريون الطريق إلى صنعاء بدل أن يطول السفر إلى الطائف؟